فجأة دوت صرخات ملتاعة من كل افراد الاسرة، أرعبت الجيران واذهلتهم، وربما اصابت بعضهم بالصدمة، بعد ان تناثرت الاخبار ممزوجة بالدمع والنشيج، معلنة اصابة ذلك الرجل الطيب الذي كان يذكر له معظم سكان المنطقة طيبته وبساطته وعراقته وثقافته وسرعة استجابته في اغاثة المحتاجين ومشاركتهم افراحهم واتراحهم، اصابته بذلك الداء الخبيث.
ولعل من اقسى واقذر واخطر التحديات الشرسة والخطيرة التي باتت تنتصب امام الانسان في عصرنا الراهن، وهي تكشر عن انيابها المدببة، محاولة شل مقاومته وتمزيقه والتهامه ببطء تارة، وبسرعة تارة اخرى، وهي تدفع به نحو غياهب نفق النهاية المحتومة بمجرد سماعه باسمها، تحدي السرطان الشرس القادر على بث الرعب في اعماق الكبار والصغار، الخيرين والاشرار، وقتلهم نفسيا قبل الاطاحة بهم جسديا، حتى ان بعض النسوة اخذن عندما يضطررن لذكر اسمه في معرض الحديث عن احد المصابين به، يفعلن ذلك بخوف وتوجس وهن يتهيبن لفظه صراحة، وكأن من يلفظه سيصاب به اوتوماتيكيا، مستعيضات عن ذكر اسمه الحقيقي بكناية (ذلك المرض) حتى أمسى الجميع يدرك ان المسمى الشعبي للسرطان في اللهجة العامية اصبح (ذلك المرض) وقانا ووقاكم الله من شروره وابعده عنا وعنكم وحمى الجميع منه وشفا المصابين به.
فعلى مدى (35) عاما لم يأل معظم افراد تلك الاسرة المنكوبة جهدا في العمل كل وفق امكاناته لانقاذ حياة ذلك الاب الذي كان يمثل لهم جميعا خيمة محبتهم وهوية انتمائهم وعنوان حاضرهم ومستقبلهم من خلال محاولاتهم المختلفة لمحاصرة امتدادات الوباء السرطاني وانقاذ ذلك الجسد النحيل الذي يكاد يتهاوى امام الانقسامات السريعة لتلك الخلايا السرطانية التي لم تزدها العقاقير المختلفة الا شراسة وعدوانية وامتدادا الى مختلف اعضائه، بل ان افرازاتها الخبيثة وانقساماتها الدراماتيكية السريعة احدثت شروخا عميقة وانقسامات حادة داخل الكيان الاسري ذاته الذي كاد يتفتت ويتشرذم ويتهاوى ويمسي مثل هشيم تبعثر الرياح ذراته، التي كادت تفقد تماسكها وتلاحمها، بعيدا بعيدا.
اخيرا، بعد حوالي (35) عاما من المعاناة مختلفة الاشكال والانواع، وازاء فشل كل الجهود (الاسرية) لوقف انقسامات الخلايا السرطانية وزحفها وهي تلتهم كل شيء في طريقها مهددة بجعل ذلك الجسد النحيل الذي انهكته (المغامرات السرطانية) يتهاوى مثل جبل الجليد، وفي خضم فشل كل الوصفات والعلاجات والعقاقير المحلية الشعبية منها والعلمية ، برز في الافق بصيص امل عبر الانباء المتطايرة هنا وهناك حول حذاقة (جراح) اجنبي متمرس (باستئصال) الاورام السرطانية الخبيثة بسرعة قياسية وبكفاءة مهنية وبخبرة ميدانية فاصابعه الحاذقة تعرف طريقها الى مركز الداء، ومشرطه المرهف خير من يستأصل الوباء .
وعلى الرغم من (تحذيرات) هذا الطرف او ذاك من التكاليف (الباهظة) لمثل هذه العمليات (الجراحية) وتأثيراتها وافرازاتها على خلايا ووظائف اجهزة الجسم وحواسه الاخرى، لاسيما وان الخلايا السرطانية سرعان ما تصبح اكثر عدوانية وأشد شراسة في ردود افعالها، وبالتالي تمسي اكثر خطورة كلما تعرضت للاشعاع او لمشرط الجراح او لبقية المضادات الاخرى، بيد ان الزمن كان يجري بسرعة لم تجاريها الا سرعة (اتخاذ القرار)، ولم يكن امام افراد الاسرة برغم تباين مواقفهم بين رافض وصامت وموافق ومستنكر ومرحب ومندد ومحذر، الا الرضوخ لقرار صعب في التعامل مع ذاك الجسد العليل، الذي ربما فرض على معظمهم بسبب غياب البديل.
دخل الجراح الشهير غرفة العمليات بعد ان احضر معه كل اللوازم والمعدات والمستلزمات (اللوجستية) وعلى شفتيه ابتسامة تقليدية غامضة تمازجت فيها مشاعر الثقة بالبلاهة باللامبالاة، وتوجه الى المريض مباشرة بعد ان اطفأ السيكارة التي كانت بين شفتيه خارجا، وكأي جراح متمرس قام بعمله بدقة وسرعة، فتح موضع الاصابة بينما كان المريض مستسلما وغارقا بعوالم اخرى وهو تحت تأثير التخدير العام وليس بامكانه ان يقدر او يتوقع ما الذي احدثه مشرط الجراح داخل احشائه؟ وهل اكتفى باستئصال الاورام السرطانية الخبيثة ؟ ام ان مشرطه (المشاكس) اشتط هنا وهناك، او تجول هنا او هناك، او ربما اقتطع جزءا من هنا او جزءا من هناك او ربما (زرع) شيئا هنا وشيئا هناك.
في اليوم التالي وبعد ان استعاد ذلك المريض سيئ الحظ وعيه وشيئا من حيويته، وفيما هو يطلع على نتائج الفحوصات التي اجريت له بعد تلك العملية الدراماتيكية لتحديد نسب ومستويات نجاحها، حضر الجراح الشهير ووقف قرب رأسه وعلى شفتيه ابتسامته التي تشكل مزيجا من البلاهة والجدية والسخرية والثقة بالنفس سائلا اياه بفخر (لقد استأصلت من اعماقك السرطان، فهل انت سعيد؟) اجابه: (كلا، لانك استأصلت السرطان، لكنك نقلت إلي عبر الدماء الملوثة مرض الايدز)، ابتسم الجراح بسخرية وتابع (المهم انني انجزت مهمتي على الوجه الاكمل)، وغادر بلامبالاة مسرعا، فهنالك الكثير من العمليات الجراحية المماثلة بانتظاره.
ترى، كم من دولة في المنطقة اصبح حالها حال ذلك المريض سيئ الحظ، حيث انقذها جراحو السياسة الاقليمية والدولية من سرطان الدكتاتورية، ليزرعوا فيها ايدز الطائفية ؟
مال اللــــه فــــــرج