كثير من نازحـي الموصل وبلدات سهل نينوى سيجدون صعوبة في عقد صداقات وألفة مع مكانهم الجديد، ان كان في الخيم او في الكرافانات أو الأماكن المؤقتة لأيوائهم، بعيدا عن تلك البيوت والأزقة والمرابي التي تآلفوا معها لمئات السنين. بعيدا عن جدران تلك البيوت والكنائس التي تعتمر حجارتها مخزونا هائلا من الترانيم والصلوات ورائحة البخور (بسما). عليهم اليوم ان يحتفلوا بعيد الميلاد وكأنهم لم يبرحوا عقود السبي والأضطهاد، وكأن الحضارة مازارتهم ولا اطلت عليهم بنورها. هكذا ينظر الكبار الى ملامح الأيام والليالي، اما الأطفال، فلا اظن ان احدا سيتمكن من الأجابة على تساؤلاتهم او استفساراتهم، لماذا؟
قبل ايام قلائل، رفعت سماعة التلفون لألقي بالتحية على اخي الغالي ، الفنان والمخرج المسرحي (لطيف نعمان) الذي يسكن وعائلته مدينة(عنكاوة) الجميلة، وبعد حديث قصير، تمنيت له وللعائلة عيد ميلاد سعيد وسنة مباركة. ساد الصمت للحظات ثم أجابني: ايُّ عيد هذا الذي تتحدث عنه يا كمال؟ ايُّ عيد والعوائل المهجرّة تفترش الأرصفة والبيوت الفارغة والساحات العامة؟ ايُّ عيد؟ ولبرهة من الزمن احسست بأن غضبا وألما عظيمين يعتمران صدر هذا الأنسان، في وقت جعل منه الزمن شاهدا على واحدة من اسوء ما مرّ على مسيحيي العراق ( ومن ابناء المكونات الدينية الأخرى، أيزيديون وصابئة مندائيون) دونما ان يتملك ادوات التغير او ان يوقف هذا المشهد الملئ بالأحزان والآلام.
ولبرهة من الزمن أردتُ ان اقول لأستاذي (لطيف) بأن الأنسان ما كان له ان يبقى لليوم ( ويسلم من الكوارث) لولا تملكه لأهم ميزة فيما بين المخلوقات وهو العقل، ولعلي أجزم بأن كوارثَ ونكبات مثل هذه وربما أشد منها قد مرّت على المكون المسيحي، ورويت اراضيهم بدماء الأبرياء قوافل تلو القوافل، فمضى المحتلون والغرباء والأعداء وبقوا هم، معلنين انتصار ارادة الأنسان في الحياة، وليس في الموت!
في العيد يجدد الأنسان تشبثه بالحياة، بالولادة وبالخير، بالبناء واللون الأخضر، رغم الحزن والألم والموت، الا ان الحياة تمضي، وساعات الخوف ستمضي، والذي يبقى حتما هو الأنسان، ولو خسر العقار او الأرض او الكنيسة او المعبد، فالمهم ان لا نخسره هو. انه هو الذي عمّر الأراضي وزرعها وحولها الى كنوز الخيرات، وهو الذي بني الكنائس والمعابد، وأحتفال اليوم واضح المعالم ولا لبس فيه، فالذي انتصر في هذه المعركة هو الأنسان ، والذي انهزم هم ابناء الظلام والتخلف. فقد تمكنوا من بيوت المسيحيين، لكنهم لم يتمكنوا منهم او من ايمانهم، وأيمّا معادلة هذه!
ما كان من صورة اروع من تلك التي سطرها الخيرون من ابناء الرافدين، وأشقاؤهم من كنائس المشرق والعالم، في حملات التضامن والتعاضد امام هذه المحنة الكبيرة. كانت ومازالت تلك الصور تتشكل وتسمو بأنسانيتها وثقافتها العالية، في حملات التبرع بالأموال، والمواد العينية، بالمواد الطبية وألعاب الأطفال، بالأقلام والدفاتر، بالأغاني والمحبة، بالدعاء والصلوات، وبفتح القلوب والبيوت لأستقبال النازحين، ولا اظن ان صورة انسانية أروع كانت ستتجلى أرقى من هذه الصورة، وهي الأنتصار للأنسان.
لن يكتمل العيد دون ان يحتفل هؤلاء اللاجؤون به، ودون ان يرفعوا أدعيتهم وصلواتهم عالية، ودون ان ينذروا للغد أمانيهم في العودة لمدنهم وبلداتهم ومدارسهم وأعمالهم وكنائسهم ومعابدهم. لن تكتمل مصابيح العيد وألوان شجرة الميلاد دون ان يقفوا امامها معلنين تمسكهم بالحياة وأنتصارهم على جحافل الظلام والتخلف والحقد والكراهية. ولن يكون عيدا حقيقيا لباقي ابناء الشعب العراقي بكل مكوناته الطيبة والمؤمنة بالأنسانية، الا حينما نتيقن بأنكم منتصرون في عقولكم وإرادتكم، منتصرون في تفكيركم وثقتكم بالغد، حينها سيكون العيد عيداً، ولعلي هنا اعيد رسم ملامح ذلك المشهد الذي نتخذه دائما نموذجا للحياة ، فالمسيح ولد في مغارة بسيطة، بلا انوار ولا تدفئة، ولد نعم……. وأنتصر.
لكم أحبتي ارفع كل التهاني والأمنيات، لعوائلكم الكريمة، لنسائكم الصبورات، للشباب والشابات الحالمين بالغد الطيب، لأطفالكم الحلوين، لكبار السن والمرضى والمقعدين، للحوامل والأيتام والأرامل، ولكل من فقد عزيزا في هذه الظروف الصعبة ، لقلوبكم المليئة بالمحبة رغم سيئات الزمن، أرفعُ التهاني و أشارككم الأمنيات بوطن خال من الأحقاد والكراهية، وطن يحترم ابناءه كلهم ويوفر لهم العيش الكريم والأمن والأمان، وطن لا مكان فيه لأعداء الأنسان والأنسانية، ويقيني بأنه قادم رغم كل الصعاب، فالأنسان أثبت انه الأقوى مهما اشتدت عليه المحن.
لن نترككم وحدكم في هذه الأيام. وفي هذه الأعياد، نحن معكم !
كمال يلدو
كانون أول ٢٠١٤