يمر الشعب العراقي
اليوم بأزمة اخلاقية بحتة لم يشهدها في تاريخه
الحديث ابداً،هي حصول التعدي والهجوم من قبل قوات امن الدولة على المنتديات الثقافية والاجتماعية
ومحلات بيع الخمر بغية الترهيب والتشديد
باسم الدين الذي هو خارج الدستور واعراف العراقية .
المجتمع العراقي منقسم بصورة واضحة
الى ثلاثة فئات، الفئة الاولى هي الفئة المتشددة او المتعصبة دينيا او مذهبيا، الفئة الثانية هي
العلمانية او التي تريد مواكبة الحضارة وتعيش الحياة الواقعية، الفئة الاخيرة التي
هي اكبر الفئات، هي الفئة المهملة الفقيرة التي كانت
تعيش في الهامش وتتبع فئة الحاكم او النظام، اي تابعة من غير قناعة الى القوى المسيطرة على البلد.
علي الوردي العالم
والباحث العراقي الكبير المختص بعلم
الاجتماع الذي يتفق معظم العراقيين على موضوعيته في تحليله ووصفه لمشاكل المجتمع العراقي، ولغته
المعتدلة في تقيم التاريخ والحضارة الغربية والشرقية والاسلامية. هذا الكاتب الكبير كتب
الكثير عن المجتمع العراقي منذ ظهور الاسلام والصراعات
التي واكبته لحد الان
.
هنا ننقل بعض اراء
هذا العالم
الكبير والتي هي
موثقة في كتابة " دراسة في طبيعة المجتمع العراقي" عن الضغوط التي مارسها رجال الدين المتعصبين او المتشددين
قبل مئة عام (كما يحصل اليوم في قضية غلق المنتديات الثقافية والنوادي الاجتماعية ) على
المجتمع العراقي من مواكبة الحضارة او السير
ورائها التي على الاقل كانت ترمي القضاء على الفقر والمرض والجهل في حينها. لكن بعد مرور اقل من ربع قرن
على هذه المحرمات كسر القاعدة او الطوق الذي ضربه رجال الدين عليهم وتبعوا الحياة الواقعية
وضرويات الحياة التي لم يعد بمقدرة احد الاستغناء عنها .
معظم ان لم نقل
جميع هذه المواد حرمت على الفرد العراقي من امتلاكها في بداةي القرن الماضي لان
مخترعها من اهل الكفار وابناء الاستعمار.
لكن على الوردي يعود ويذكر بعد عشرة او عشرين سنة كان الاقبال لها كثير جدا. بل حدثت جرائم بسبب هذا الحرمان لا
مجال لذكرها، حيث وجد الفقراء ان اولاد رجال الدين الذين كانوا يحرمون على العراقيين على
ارسال اولادهم او بناتهم الى المدرسة كانوا قد
ارسلوا اولادهم بناتهم الى ارقى المدارس بل الى اوربا وتخرجوا من احسن الجامعات وتزوجوا من الكفار.!!!
بيت القصيد في
دراسات على الوردي كان
ان المجتمع العراقي
كان ولازال يعيش في ازدواجية مقية ظهرت في العصر الحديث نتيجة تراكم السكاني في المدن ومن ثم اضافة اليه
تقاليد العثمانيين و تشدد الايرانيين، فهم من جانب يكرهون الغرب وتقاليدهم الاجتماعية
ويحرمون الاحتكاك بهم ومن جانب اخر كانوا متلهفين الى
امتلاك منتوجات الغربيين كامر طبيعي نتيجة ذلك يكرهون يب يحقدون على المسيحيين والاقليات جميعها.
هنا بعض ما وثقه
العلامة علي الوردي في هذا الكتاب.
حيث يقول في
الصفحة 287 :" كانت الدعاية العثمانية خلال الحرب (يقصد الحرب
العالمية الاولى) تؤكد للناس على ان الانكليز انما جاؤا لتحطيم الخلافة ومحق الاسلام".
ثم يقول في نفس
الصفحة بعد الحرب :" كان اهم مظاهرها ما حدث فيها هو تحريم واستنكار لكل ما جاءت به الحضارة من
افكار وعادات وازياء
."
ثم يقول ايضاً : " فدخول المدارس حرام، قراءة
الجرائد حرام، وتعلم اي لغة اوربية حرام. كذلك حرموا لبس القبعة والاكل بالمعلقة وربما الجلوس
على الكرسي وحرموا امورا اخرى كثيرة لا حصر لها"(1)
في الصفحة 289
يقول: " لقد كانت الوظيفة مغرية لما فيها من نفوذ ومرتب ومضمون، لكن بعض الرجال الدين اعلنوا
تحريمها واعتبروها من قبيل التعاون مع الكفار". لكن بعد عشر سنوات بعد الازمة
الاقتصادية العالمية سنة 1929 كانت الناس تبحث عن وساطة للتعين في وظيفة.
في الصفحة 291 يقول
علي الوردي: " وعندما بدا الحكومة العراقية
(تحت سيطرة الانكليز) تفتح المدارس اعلن بعض الرجال الدين تحريم الدخول فيها، فلقى هذا التحريم هوى في
قلوب العامة. ولذا كان الاقبال على المدارس في بداية الامر ضعيفا ولم يدخل فيها الا عدد قليل
من التلاميذ"
.
يذكر الوردي في الصفحة 294 (معتمدا عل
احصائيات في وزارة التربية وتعليم العالي) : " ان عدد طلاب تلاميذ المدارس الابتدائية في عام 1920-1921
كان زهاء 8 الاف، ثم اصبح هذه الرقم (بعد اربعين
سنة) في عام 1963-1964 حوالي 958 الف اي حوالي مليون طالب. " بمعنى زادت نسبة التحاق بالمدارس عشرة الاف ضعف.
اما بالنسبة للمراة
يقول في
الصفحة291: "
في العهد العثماني يعتقدون بأن مجرد تعليم المراة القراءة والكتابة يؤدي الى فسادها وخروجها عن الطريق."
حتى تم تأليف كتب
واقمت دراسات عن كيفية حصول فساد
المراة عن طريق التعلم مثلا صدر كتاب في عام 1897م تحت عنوان" الاصابة في منع النساء من القراءة" فيذكر العلامة الوردي نص منه في
صفحة 292 من
كتابه :
" فاما تعليم النساء القراءة والكتابة فأعوذ بإاله منه اذا لا ارى شيئا اضر منه بهن، فإنهن لما كن مجبلات على
الغدر."
في نفس الصفحة يقول
على الوردي في العقد الثاني من
هذا القرن( اي قرن 20) اغلقت مدارس للبنات بعد فتحها لان الاباء رفضوا ان يرسلوا بناتهم اليها. لكن في
منتصف الستينات كان عدد الطلاب ربما متساوي النسبة بين الاناث والذكرو، وفي الحروب المدمرة
لصدام
حسين كانت المراة
هي معيل
العائلة هي المعلمة
والدكتورة، والمهندسة والمحاسبة بل هي التي تدير عجلة الحياة.
ما هو مهم الذي يجب
يعرفه كل العراقيين الان وبالاخص الذين يحاربون المسيحيين والديانات الصغيرة هو ان التغير
الذي حصل في العراق لم يكن فقط بسبب حصول الاحتلال الذي
ليس لهم العلاقة به اصلا ، بل بسبب الازدواجية التي يمكلها العراقيين. فقط نريد ان يتذكر العراقيون كانت هناك
قبل حرب الكويت ثلاثة او اربعة معامل البيرة في العراق ما عدا الخميرة المستوردة
، فهل من المعقول كل انتاجها كان يستهلكه الاقليات؟! .
فما اشبه اليوم
بالامس ، فمنع المنتديات الثقافية والاجتماعية في
مدينة دار السلام وابي نؤاس بحجة منع انتشار الخمرة هي شبيهة بمنع اجدادهم من ارسال الفتيات الى المدرسة بحجو
حصول الفساد، لكن في النهاية كانت المراة العراقية هي اول امراة تقود السيارة
في الوطن العربي. وان اول طبيبة في الوطن العربي (
الدكتورة آنة ستيان عراقية ارمنية) .
علي الوردي كعالم اجتماعي يعترف في كل كتاباته ان اي ظاهرة
تحصل في المجتمع لابد في النهاية تصل الى مرحلة التوازن بين طرفي النقيضيين.
ان التعدي على
الاقليات هي جريمة انسانية واخلاقية
قبل ما تكون معصية اوامر امام الله, المتدين الجيد هو الذي يعيش حياته دائما صائما، صائم من ممارسة الفحش
والجريمة والسرقة والتعدي على ارواح الاخرين، مثاليا في
المواطنة والالتزام في القانون ومستعدا للتضحية بنفسه من اجل وطنه او مجتمعه. بل امينا في وظيفته.
خلاصة الامر نقول
ان اسلمة الناس بالقوة لن تنجح،
والبراهين التاريخية كثيرة، والعاصفة التي تهب على الوطن العربي والدول الاسلامية ليست بسب حصول
صحوة اسلامية اي دينية حقيقية وانما هناك من افتعلها (مثلما جاءت عملية نفي شاه ايران الى حيث
لا عودة ونقل الامام خميني الى ايران في نفس
الاسبوع) لغرض بث العنف والقتل والجهل والفقر والانتقام بين العراقيين.
..............
1-
هذه قائمة من
المواد او المنتوجات الجديدة التي
اتت بها الحضارة الغربية اوالتي اتى بها الكفار الى العراق بعد الحرب العالمية الاولى بفترات متفرقة كانت
محرمة على المجتمع هي :" الكهرباء، والثلاجة، المبردة، السيارة، المعلقة ، الغاز والنفط، السكك
الجديد والقطار، المضخات ، الطائرات، والبواخر
والسفن، ابرة البنسلين والبراسيتول وبقية المضادات الحيوية، ومخدر العمليات وحبوب السكر و حبوب الضغط ،
والراديو. بعد النصف الثاني من القرن الماضي وبعد ظهور علم الالكترونيات ظهر التلفزيون
والكومبيوتر والموبايل، والفيس بوك والايميلي
والانترنيت وتستمر القائمة بحيث لا نجد اليوم شيئا واحدا باقيا من المواد التي كانت مستخدمة قبل قرن سوى فكر
المتشددين انفسهم . فهل يستطيعون تحريمها اليوم على الناس؟؟!!
بقلم يوحنا بيداويد
ملبورن – استراليا
10 ايلول 2012