جبو بهنام
صدرللقاص ( سعدي المالح) مجموعته القصصية الحكائية المعنوية ( حكايات من عنكاوا) عن دار جمعية الثقافة الكلدانية/ عنكاوا 2005 تضمنت تسع قصص حملت بين طياتها الحس الإنساني وأبعاده الجمة التي تمر بمراحل الإنسان منذ الطفولة، أو الأحداث التي تمتلكها خصوصية التعقيد والخصوبة بحيث يقصر الإنسان ان يستوعبها، او ينفذ إلى جوهرها، الأمر الذي يحتاج إلى إعادة النظر في قدرة هذا النوع من القصص للإستجابة لمتطلبات القارئ أو ابتكار عالم جديد تتضافر فيه عملية التقاط وتجسيد مرحلة من مراحل تطور العلاقة بين جمالية القصة وعهدها الكلاسيكي، وهذه حقيقة بين الظرف الاجتماعي الذي يعيشه الكاتب من هذا النوع من الفن القصصي.
يسرد لنا القاص مجموعة حكايات روائية تدور أحداثها بين منطقة وأخرى من عنكاوا، تتصف بسرد فني مشوق ، تتخللها الشفافية والرقة واللغة الفنية الجميلة المسبوكة بحبكة فنية، وهذا العمل القصصي يتطابق كلياً مع جوهر اللحظة التاريخية التي كان يحييها القاص، فهو متواضع في عمله قانع من أن يقتطع من الواقع الذي كان يعيشه موقفاً او لقطة او ذكرى, ساعياً إلى أن يتعمق عبر هذه اللقطة المختارة تجربة مكثفة يمتد إيحاؤها إلى ما يشابهها من التجارب.( كان القمر بدراً، يرقد في حضن سماء القلعة مبتسماً وكانت أشعته الفضية تضيء وجه الخالة فاتة الممتد على طرف فراشها على السطح انها صعدت إلى السطح طامعة في نومة هادئة بعد ان أصبح من العسير ان تتذوق في الحوش الذي ظلت طيلة حياتها تنام فيه في المساء عندما كنست سطح حجرتها الترابي ورشته بالماء فاحت منه رائحة الأرض البكر وهي تحرث لأول مرة ,تذكرت طفولتها عندما كانت ترش السطح بالماء وتكنسه يوميا وتصعد بأفرشة العائلة جميعها الى السطح وترتبها , تلفت هنا وهناك الى سطوح الجيران تخفي نفسها خجلاً كلما لمحت رجلا والى أن صعدت بفراشها هذا المساء ورتبته كان الظلام يتوزع في ارجاء القلعة . في هذه الأثناء لسعها الحنين وأعادها إلى أيام الصبا لكنها عندما نظرت إلى سماء القلعة رأت في أسفلها فوق السطوح موصلات التلفزيون تلمع على ضوء مصابيح الكهرباء وهناك في البعد تمتد المدينة حتى تكاد المنارة الأثرية البعيدة من القلعة تختفي بين البيوت المحيطة بها دارت المدينة بضجيجها العالي برأسها المدينة تدور دورة ثلاث عشر والضجيج يتعالى ..ويتعالى.. لم تتمالك الخالة فاتة نفسها جلست على طرف الفراش تمددت بعد ذلك دون إرادة منها) ص 11
. لقد كان السفر خارج الوطن تجدد وتعجيل بنمو فكري وفني، وهذا تحقق من خلال القصص التي أغناها القاص بأبعاد رؤيوية حقيقية ألقت الضوء على واقع مرير كان يعيشه الإنسان في تلك الفترات المظلمة. لقد واكب الأحداث وتصورها تصوراً كاملاً لسمات ذلك العصر بكل التفاصيل والمميزات عبر سرد روائي رائع لاكتشاف الذات والواقع في العلائق الجدلية وتوصيلها عبر كل السبل إلى ذهن القارئ.( صدح صوته الجهوري، الذي لم تعطله السنون ولا المشقات ولا هموم الدنيا صدح بلحن عذب ( حيرانا) حزيناً يروي قصة ملحمية، فعرف زبائنه انه العرق الآن جاهز، وبالتأكيد هو عرق ممتاز ينزل من الزردوم مثل السمن، يصفي القلب ويخدر العقل وينظف الحنجرة يجعلها تصدح مثل حنجرته هاهم يتوافدون على بيته حاملين قنانيهم الفارغة، متوجين بالأمل .كلما دخل زبون قطع شعو غناءه .رفع رأسه تمصص منه قليلاً زمّ شفتيه ومطهما ثم مسحهما بظاهر كفه وقال لزوجته : ماذا يريد ؟ الدواء؟ اعطيه من القربة الفلانية ) ص 24.
في كل ذلك يستمد القاص قصصه التاريخية الحكائية الجميلة هي أكثر حرية من الخيال وابتكار الشخصيات والأحداث المخترعة في تشكيل جديد يختلط بشيء من واقع التاريخ الذي مرعلى أيام القاص ، فهو قائم على فهم عام لروح العصر وطبيعة ناسه المتواضعة المهتمة بالمحبة والتفاؤل لرسم صور المستقبل يكتب باستحياء عن تلك الأعمال التي تقوم بها الناس في ذلك الوقت تحت تأثير الفهم والإدراك من خياله على أن لا يفاجئ بحالات خارقة الزمان والمكان او يغير الحقائق فهو مباح للحب المتفهم ان يمسي انبهاراً عاطفياً يناسب ومطالبه القصصية الخاصة.
لقد استطاع القاص ان يضع المشاهد القصصية محل الوقائع الحقيقية التي مرت على ذهنه كلما كان ذلك مناسباً او ممكناً ولغته العاطفية المنتمية لتلك البلدة الهادئة عنكاوا الغافية على سفح واسع، ( كنا نلعب في البيادر وكانت الشمس من حين الى حين تطل برأسها من وراء الغيوم السارحة في السماء كأنها هي الأخرى تلعب معنا تناهي إلى مسامعنا من بعيد على حين فجأة دوي أشبه بصوت جرافة ، لم يلفت انتباهنا في البدء لكنه عندما غدا يقترب شيئاً فشيئاً شدنا اليه فأصخنا له السمع جيداً
دبابة انظروا. هاهي دبابة قادمة
وقفنا في الفلكة مترددين فترة قصيرة ثم دخلنا الشارع في أثرهم كان مقفراَ وكانت الشمس اكتفت من لعبها وألقت تلك الغيمة شحوبها على الشارع والخرائب والدور المقطوعة المتراصة على جانبيه بشكل مخيف وغريب أضفى أجواء كئيبة على كل شيء ولما صرنا على بعد رمية عصا من المقهى كان المقهى فارغاً حتى من صاحبه ابواب . بعد دقائق كان الجيش يحاصر المقهى الفارغ بالدبابات والأسلحة بينما يبحث عشرات الجنود في القرية عن صاحب المقهى المختفي الذي اتهم بتنفيذ عملية ضد الجيش) ص 28
لقد تظافرت قدرة القاص على تصوير رؤيا متشعبة الأفكار والشخصيات وهو المبتكر الخلاق المتخيل دائماً والسارد للحقيقة التي راودته طوال فترة زمنية طويلة فقصارى ما يستطيعه القاص ان يضع المشاهد القصصية التاريخية صنعت له خلفية واسعة عن روح العصر الذي عاشه أيام الطفولة.
لقد عاش القاص حب البهجة والإستقصاء والبحث عن موضوع رواه طيلة فترة اغترابه ، وذلك باتساع اهتمامه بالسرد المتعدد الألوان عبر حياة مديدة حافلة بالمواقف التي ذكرها القاص عبر قصصه القوية الجذابة من خلال بناء الصورة الصحيحة والواقعية عن واقع اليم عاشه القاص خلال فترات زمنية عصيبة اجتاحت ارض الواقع، فهي قصص تمنحنا شعوراً بالامتلاء والغنى الفكري والوجداني المنبثق من رؤيا واقعية تحليلية سليمة وصياغة قصصية قائمة على السرد والتصوير.
لقد عاش القاص طفولة جميلة تنتابها البراءة رغم قسوة الزمن وهذا واضح في قصة ( خمسة فلوس) فقد ظلت هواجسه على امتداد القصة ان يصل مبتغاه دون ملل او كلل فيما ظلت أحلامه وأفعاله إستباقاً لها أو إسهاماً فيها.
إن رحلة البحث والاكتشاف توفر في ذاتها عصباً درامياً قوياً يوفر الأساس لمعالجة درامية ناضجة راسخة بين العام والخاص من خلال العلاقة الجدلية بين الإنسان والظروف في صنع التجربة الإنسانية ( دهشت لسؤاله المباغت وجعلني أتردد في الإجابة فحولت نظراتي إلى والدتي كأني اطلب منها ان تسمح لي ان اقول لا لكن قبل ان انبس ببنت شفة، صرخت من مكانها.
كيف لي ان أعطيه من يخلصني من طلباته بينما كنت أتوقه ان يعطيني الوالد صفعة على هذا التردد الأشبه بالابتزاز اخرج من جيبه خمسة فلوس ورماها لي قائلاً على غير عادته، خذ هذه أيضاً واشتر بها ما تشاء)ص48.
لقد وفر الكاتب لعمله هذا أصالة عضوية بين التاريخ الحقيقي وبين تصوره الخاص او ضروراته الفنية ، فلأن بدأت قصة ( الحب) محكمة النسيج والتشخيص من خلال أحداثها الرؤيوية والموضوعية المتشابهة بات يكتشف لنا القاص اثر الأم في التربية وهي رافد معطاء يتدفق وفق أسس الأمومة باعتبارها الأرض الخصبة المعطاءة التي تستطيع ان تربي مجتمعاً واعياً تسوده السعادة والمحبة والأخلاق، يقول الكاتب نجيب محفوظ ( يجب ان تعلم من مرارة الأيام التي نتجرعها الا نحزن أكثر مما ينبغي مهما يكن المصاب) فسبيلنا إلى هذا هو الحب الذي يرتفع بالإنسان الى ذروة عالية من السعادة والجمال( صرخت أخيراً بأعلى صوتها، ملوحة بيديها بعد ان طار عنها صوابها وحتى هذه اللحظة كانت امي تقف فوق راسي راجية بتوسل البوح لها بالسر محاولة أقناعي بوعود معسولة لا سيما التوسط لدى والدي وطلب الصفح منه قبل ان يطفح كيل غضبه في حين ان والدي كان يرجف من شدة غيظه غير أنه يحاول قدر إمكانه ضبط نفسه وكبت تلك الرجفة الخفيفة في داخله , وهو يذرع أرضية الحجرة طولاً وعرضاً تارة . فقد كان على الأرجح يفكر في حيلة يتدبر بها الأمر معي , وعلى وشك أن يقول شيئا ,عندما انفجرت والدتي صارخة شاتمة ) ص57
ان القصص اذ تعبر عن حالة الواقع والطفولة التي عاشها القاص بعيداً عن الفنتازيا في المضمون القصصي ,كما أن القاص أغرق في سرد المضامين الواقعية والأيديولوجية البسيطة المنبثقة من ذلك الواقع الزمني البعيد بماضيه البسيط والتي تدخلت في محتوى القصص بعيداً عن المحتوى والشكل الرومانسي .
لقد إستطاع القاص أن يشكل ديناميكية في القصص من خلال وصفها للواقع ومن خلال الرموز والإشارات التي رآها ولمسها القاص أيام الطفولة . وهذا الواقع والحالة دخلت في مخيلته وإيمانه بامتعاض وذكريات ألهبت لدى القاص سيّر الشوق الزمنية .
القاص سعدي المالح أبدع في قصصه الحكائية السردية فاستطاع بذلك أن ينجز عملاً قصصياً وثيق الصلة بقوانين البناء الدرامي، استطاع بقصصه هذه ان يرسخ حركة الماضي والسيرة معاً في حبكة درامية ملؤها الإحساس الفني من خلال سرد الوقائع التاريخية الطفولية المصورة، فهي قصص ذات أسلوب فخم وبليغ شامل وضعت أمام القاص صورة للواقع الماضي مصاعب جمة التقطها بمشهد كبير ورؤيا فنية متماسكة وحيوية.