12 آذار 2010
سعيد لحدو
بالأمس 11 آذار 2010
كان يوماً تاريخياً بالنسبة للشعب الكلداني السرياني الآشوري عندما اقر البرلمان
السويدي، الاعتراف بالجرائم التي ارتكبت بحق ابناء هذا الشعب بالإضافة إلى الارمن والبونتيين
اليونان التي حدثت في العام 1915 كجرائم "ابادة
جماعية". وعلى إثره استدعت أنقرة سفيرها في السويد احتجاجاً على هذا القرار
الذي يضع تركيا الحالية في مواجهة دائمة مع تاريخها المشوب بالكثير من البقع السوداء.
ويعتبر هذه القرار
أول اعتراف رسمي من دولة أوربية بالإبادة الجماعية التي مارسها الأتراك خلال الحرب
العالمية الأولى ضد أبناء هذه المجموعة الإثنية والدينية الأصيلة في وطنها
التاريخي، إضافة إلى الأرمن واليونان. مما كانت نتيجته الإفراغ شبه التام لهذه
المنطقة من سكانها الأصليين من المسيحيين. فيما بقيت آثارهم وكنائسهم وأديرتهم
التاريخية شاهداً على حقبة سوداء من التاريخ الإنساني في هذه المنطقة.
عرفت هذه المذابح على
نطاق واسع عالمياً بمذابح الأرمن بسبب الدمار الهائل الذي تعرض له الأرمن بشكل خاص
وقتل قرابة مليون ونصف منهم وتهجير مثلهم في أصقاع العالم. في حين كان ضحايا تلك
المذابح من الكلدان السريان الآشوريين حوالي نصف مليون وتهجير 80% من الناجين منهم
من مناطقهم التاريخية إلى سوريا والعراق ولبنان وفلسطين وأوربا والأمريكيتن. وبسبب
النشاط المتميز للأرمن والذي سبق الكلدان السريان الآشوريين بمدة طويلة من الزمن،
وبسبب تركز جاليات أرمنية كبيرة في فرنسا وأمريكا ودول أخرى فقد تمكن الأرمن حتى
الآن على الحصول على اعتراف 21 دولة بالإبادة التي مورست ضدهم، في حين أن البرلمان
السويدي يعتبر السباق في إقراره بالإبادة الجماعية للكلدان السريان الآشوريين، على
أمل أن تتلوه برلمانات أخرى في المستقبل القريب.
في كل مرة يجري فيها
التقدم خطوة على طريق الاعتراف الدولي بهذه المذابح، يرد الأتراك بسحب سفيرهم من
الدولة المعنية وبالتهديد بقطع العلاقات أو أوجه التعاون الأخرى. ثم لا يلبثون وأن
يعيدوا الأمور إلى سابق عهدها. هذا ما حدث بعد إقرار الجمعية الوطنية الفرنسية في
الثاني عشر من تشرين الأول 2006 لمشروع القانون حول تجريم
الإنكار للإبادة الأرمنية لعام 1915. وهو القانون الذي يعد مكملاً للقانون الذي أصدرته فرنسا في 18 كانون الثاني 2001
بالاعتراف بالإبادة الأرمنية، والذي حدث على إثره الأمر ذاته بسحب السفير التركي
والتعبير عن غضب تركيا. هذا القانون الذي كان انتصاراً لحقوق الإنسان والعدالة التاريخية بالإدانة والاعتراف بأول
جريمة إبادة في القرن العشرين لإحقاق الحق لشعوب عانت طويلاً من الإبادة والتشريد
والإنكار لمآسيها وآلامها الفظيعة ناهيك عن اجتثاثها من مناطقها وأراضيها وبيوتها
التي استوطنتها آلاف السنين وأقامت فيها حضارات وممالك وإمبراطوريات عريقة.
الأمر ذاته حدث قبل
أيام وبالتحديد في 4 آذار الجاري عندما صوتت لجنة الشؤون الخارجية بالكونغرس
الأمريكي على قرار يعتبر "المذبحة" التي تعرض لها الأرمن على
أيدي القوات التركية بالحرب العالمية الأولى "إبادة جماعية،" وهو قرار أثار حفيظة
أنقرة على الفور ودفعها إلى استدعاء سفيرها في واشنطن للتشاور. هذا رغم أن مسؤولين حكوميين أمريكان من بينهم وزيرة الخارجية
هيلاري كلينتون، دعوا إلى عدم إقراره، للحفاظ على العلاقات مع تركيا وعدم الإضرار بالمصالح
الأمريكية في المنطقة.
في الوقت ذاته قال
رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان إنه يشعر بقلق جدي حيال إمكانية تدهور العلاقات
التركية الأمريكية، بعد هذا القرار الذي ينتظر التصويت عليه في الكونغرس الأميركي.
والآن وبعد أسبوع
تماماً من القرار الأمريكي ومرة أخرى يعلن رئيس الوزراء التركي طيب أردوغان بالأمس
الخميس على إثر إعلان نتيجة تصويت البرلمان السويدي،أنه استدعى سفير تركيا من
ستوكهولم بعد أن قرر البرلمان السويدي اعتبار مجازر الكلدان السريان الآشوريين والأرمن
واليونان على أيدي القوات العثمانية وأنصارها في الحرب العالمية الأولى إبادة
جماعية.
وقال أردوغان في بيان
في موقعه على الانترنت: "نحن ندين بشدة هذا القرار الذي صدر لحسابات سياسية.
وهو لا يتفق مع الصداقة الوثيقة بين شعبينا. لهذا فقد قررنا استدعاء سفيرنا
للتشاور."
وإذا كان الأمر كذلك
كما يقول أردوغان، أليس بسبب الحسابات السياسية ذاتها والمصالح الاقتصادية
والعسكرية التي تربط تركيا بالغرب عامة ودول أخرى عديدة هي التي دفعت ومازالت تدفع
بتلك الدول للإحجام عن الإعتراف بجريمة تاريخية بهذا الحجم المفزع بحق شعوب وأمم
عانت الأمرين من ظلم الأتراك في حقبة مرت من التاريخ؟ حيث مازالت هذه الشعوب ترزح
تحت ثقل تبعات تلك المذابح رغم مرور 95 عاماً على حدوثها. ألا يناقض أردوغان
والحكومات التركية المختلفة أنفسهم عندما يهددون باتخاذ إجراءات سياسية ضد الدول
التي تقدم على الاعتراف بجريمة تاريخية جرت ومورست أمام سمع وبصر العالم أجمع وما
زالت آثارها ماثلة للعيان؟ هل تكون الدوافع السياسية لموقف ما جيدة ومقبولة فقط
عندما تتوافق مع المصالح والمنطق التركي، وتكون سيئة ومرفوضة عندما تتعارض مع تلك
المصالح، حتى لو تعلق الأمر بحقائق تاريخية راسخة؟
ثم إن تعلق الأمر
بمصالح سياسية حقيقية، أليس لدولة كالسويد
مصالح سياسية وغير سياسية مع دولة كبيرة ومهمة كتركيا أكثر با لايقاس مما لها مع
جالية صغيرة من الكلدان السريان الآشوريين ممن يعيشون على أراضيها أو في أي مكان
آخر من العالم مفتقرين إلى أي نوع من القوة أو النفوذ الحقيقي؟
المشكلة هي حقيقة في
العقلية التركية المتزمتة والتي لاتقبل أية مصالحة مع ماضيها، رغم اعتراف العديد
من الأتراك بحصول تلك المذابح ابتداءاً من مصطفى كمال، مؤسس الجمهورية التركية،
إلى توركوت أوزال، الرئيس التركي الأسبق، إلى العشرات من الكتاب والصحافيين
الأتراك البارزين من أمثال أورهان باموك الحاصل على جائزة نوبل للآداب. ومادام
الأمر كذلك، فمن حق أردوغان وغيره من المتزمتين الأتراك المخلصين لتراثهم العثماني
بكل مافيه من شوائب ووقائع مخجلة للضمير الإنساني أن ينزعجوا من كل خطوة تقوم بها
دولة ما على طريق الاعتراف. ولكن في الوقت ذاته فمن حق ضحايا تلك المذابح من
الشعوب التي اقتلعت من جذورها وأبيدت، كما هي الحال اليوم مع الشعب الكلداني
السرياني الآشوري أن يسعوا للحصول على اعتراف عالمي شامل بما حصل لها وما عاناه
أبناؤها في الحقبة العثمانية. وبالتالي إجبار الحكومة التركية لتحمل مسؤوليتها
التاريخية عن تلك المجازر. وتعتبر السويد اليوم البداية بالنسبة لهذا الشعب.
جدير بالذكر ان عددا غير قليل من الدول اعترف بإبادة
الارمن. وكانت الأوروغواي البلد الاول الذي قام بذلك عام 1965 تلتها فيما بعد دول
أخرى مثل روسيا وفرنسا وايطاليا والمانيا وهولندا وبلجيكا وبولونيا وليتوانيا
وسلوفاكيا والسويد وسويسرا واليونان وقبرص ولبنان وكندا وفنزويلا وارجنتين إضافة
إلى 42 ولاية من الولايات الامريكية. كما اعترف بالابادة كل من الفاتيكان
والبرلمان الاوروبي ومجلس الكنائس العالمي.
إزاء هذه الوقائع
المتزايدة وغير المريحة للحكومة التركية نتساءل: كم من السفراء بعد ستعمل تركيا
على سحبهم؟ وهل سيكون لقراراتها تلك بسحب السفراء أي تأثير على مجريات الأمور
الآخذة منحاها الصحيح؟
يقول المثل: (المية
تكذب الغطاس). فهل لغطاسي الإنكار التركي تجربة حظوظهم في الغطس في بحار السياسة
العالمية، قبل أن تكذبهم وقائع الاعترافات المتتالية على مسرح هذه السياسة؟