الحقيقةُ البشرية والدنيوية تقول: إنَّ القيامةَ أمرٌ لا يُصدَّق إلا بأمرٍ من ربِّ السماء. فالإنسانُ كما نعلم بموتِهِ، أي بانتهاءِ أيامِهِ تنتهي حياتُهُ على الأرض، وهذا حسب التقويم الدنيوي.
ولكن هنا نسأل أنفسَنا: كيف نقولُ نحنُ أنَّ المسيحَ صُلِبَ وماتَ وقامَ في اليوم الثالث من بينِ الأموات، أليس ذلك إيمانُنا وعقيدتُنا المسيحية؟ ونحن نؤمن بذلك بناءً على كلامِ الربِّ يسوع إذ قال "وفي اليوم الثالث أقوم" (متى23:17). نعم، لذا فلنسأل ذلك ونشرح ونقول:
إنَّ الدستورَ الروماني يقول حينما يُحكَم على شخصٍ بالصلبِ على الصليب ولكي يتأكّدوا من موت الشخص المحكوم عليه بالصلب قد مات، أي قد فارق الحياة. وكان الرومان يُزيدون في حُكمِهِم ألماً على ألمٍ، فإذا وجدوه حيّاً بعد الصلب بفترة قصيرة كانوا يكسروا الساقين لكي يعجِّلوا بموت الشخص المحكوم، كما يقول يوحنا الإنجيلي:"فطلبَ اليهودُ من الرومان أنْ یکسِروا الساقين، فأمر بيلاطس بِكَسْرِ سيقان المصلوبين" (يو31:19)، فتأكّدوا حينذاك من موتِهِم. ولكن بموتِ يسوع على الصليب قال يوحنا:"لم يكسروا ساقيه لأنهم وجدوه ميتاً، بل بدلاً من ذلك فإنَّ أحدَ الجنود طعنه بحربة فخرج منه دمٌ وماء" (يو3٤:١٩). ويضيف يوحنا ويقول:"إنَّ ذلك كان لِيَتِمَّ الكتابُ الذي قال: لن يُكسَرَ له عَظمٌ. وسينظرون إلى الذين طعنوه" (يو36:19-37) حينذاك أُنزِلَ يسوع من على الصليب وتمّت مراسم دفنِهِ، إذ جاء "يوسفُ الرامي" مع التلميذ الآخر "نيقوديمس" ثم طلب من بيلاطس جسدَ يسوع ليدفنه، فَسَمَحَ له" (مر45:15). ووَضَعَ يوسفُ ونيقوديمس جسد يسوع بخليطٍ من المُرّ والعود، ولفَّاه بلفائف ووضعاه في قبرٍ كما كانت عادة اليهود في دفنِ موتاهم. ويقول متّى "أنَّه وُضِعَ في قبرٍ جديد" (متى6:27)، وبذلك تأكّد لليهود موت المسيح ودفنه، فتخلّصوا من مشاكلِهِ ومتاعبِهِ التي كان يسبِّبُها لرؤساءِ الكهنةِ والفرّيسيينَ ولهم أيضاً حسب تفكيرهم. ولكن في هذا كلِّه كانتِ النسوةُ يَنْظُرْنَ من بعيد، فَعَرَفْنَ أین وُضِعَ جسدُ يسوع (متى55:27)، وفي ذلك يقول مرقس:"بعد أنْ اشترت مریم أُمُّ يعقوب وسالومة طيباً لِيَذْهَبْنَ ويَسْكبْنَ على ذلك الجسد" (مر1:16). وفجراً، أي فجر اليوم الثالث كما هي العادات اليهودية، قَصَدْنَ القبرَ ليُكْمِلوا ما تريدُهُ الشريعةُ الموسوية.
وحينما ذَهَبْنَ إلى القبر، ووَجَدْنَ المكانَ الذي كان موضوعاً فيه، رأَيْنَ "الحجرَ قد دُحرِجَ" (لو2:24-3) ولم يَجِدْنَ الجسدَ بعدما دَخَلْنَ، بل وَجَدْنَ اللفائِفَ فقط، فخَرَجْنَ هارباتٍ من شدّةِ الحيرةِ والفزع لأنَّهُنَّ كُنَّ خائفات (مر8:16).
وهنا يكمن السؤال: أين هو جسدُ يسوع؟ أين ذهبَ؟ ماذا حدث له؟ مَن أخذه؟ مَن سرقه؟ فالقبرُ وُجِدَ فارغاً إلاّ من اللفائف، والنسوةُ لم يُشاهِدْنَ جسدَ يسوع ليُطَيِّبْنَه. ولمّا أُخْبِرَ بطرسُ بذلك "سعى وأسرعَ إلى القبر، فلم يَرَ غيرَ الأكفانِ وحدها" (لو12:24) فتعجَّبَ من ذلك وبالضبط ممّا حدث، ولا مجالَ لأحدٍ أنْ يخطأَ بمكانِ القبر، ولا يمكن قد سرقه اليهود، ولا مجالَ للحكومةِ الرومانية أنْ تأخذَ الجسدَ كي لا تنشأ فضيحةٌ. ولا يمكن لتلاميذِهِ أنْ يسرقوه، للحراسةِ المشدَّدةِ على القبر وهم كانوا خائفين فتركوا كلَّ شيءٍ ومضى كلُّ واحدٍ إلى بيتِهِ، وتبيّن أن الحكاية انتهت... ولكن!.
ولكي لا يبقى ذلك معروفاً، ذهب وفدٌ من رئيسِ الكهنةِ إلى بيلاطسَ وقالوا:"بإمكانِكَ إصدارُ أمرِكَ بحراسةِ القبر إذْ تذكَّرنا أنَّ ذلك الدجّالُ قال وهو حيٌّ: سأقومُ بعدَ ثلاثةِ أيام" (متى63:27)، ولئلاّ يجيءُ تلاميذُهُ ويسرقوه ويقولون للشعبِ "قام من بينِ الأموات" وتكونُ هذه الخدعُة شرّاً (متى64:27)، فأجابهم بيلاطس:"عندكم حرّاساً، فاذهبوا واحتاطوا كما ترون" (متى65:27). لذا فمن غيرِ الممكن أنْ يجازفوا تلاميذُهُ بحياتِهِم مرةً أخرى كما جازفوا وتبعوه ليُعلنوا أنَّ المسيحَ حيٌّ وليس في القبر. فإذا كان لا الأصدقاء ولا الأعداء ولا التلاميذ ولا الجنود ولا حتى الحكومة الرومانية المتمثِّلة ببيلاطس قد وجدوا جسدَ يسوع، فلا يكونُ لنا إلا جواباً واضحاً وواحداً فقط وهو "أنَّ الله أقامَ ربَّنا يسوع من بينِ الأموات" (رو9:10) كما قال:"أنّه في اليوم الثالث يقوم" (لو8:24).
في ذلك لا نقولُ إلاّ "نعم، قام المسيح" وهذا هو نشيدُ المؤمن، وهذا ما تفسّره ظهورات المسيح المتعددة مدة أربعين يوماً، حيث ظَهَرَ لهم في وضحِ النهار وفي أمكنةٍ مختلفة ومتعددة، مغلقة، وفي الطريق لتلميذَيهِ (مر12:16-13)، وعلى شاطئ البحر، كما ظهر للأحد عشر (لو33:24) ولِناسٍ كثيرين (لو36:24) وللمجدلية، وظهر مرةً واحدة لخمسةِ آلافِ شخصٍ (لو33:24) كما أكل الطعامَ معهم ودعاهم أنْ يأكلوا (مر14:6) و"لمسوه" (لو39:24) و"رأوه" (لو13:24) بأَمِّ أعينِهِم كما "وجدوا آثارَ المسامير والحربة" (لو39:24) التي دُقَّت في يديه ورجليه، وشاهدوا أثرَ الحربةِ في جنبِهِ، لذلك نقول:
لا يمكن اعتبار هذه الظهورات كلّها غير صحيحة، فكلُّ ذلك يبرهنُ أنَّ المسيحَ قام من بينِ الأموات، وهذه هي الحقيقة والأكيدة والتي تفسِّرُ قيامةَ المسيح، إضافةً للتغيير الذي حصل للتلاميذ، فبعد أنْ كانوا خائفين ومختبئين من اليهود ومذعورين ومصدومين قبل موت المسيح، أصبحوا بعد قيامته يفيضونَ فرحاً وثقةً ويقيناً وإيماناً، كما أخذوا ينادونَ بأنَّ المسيحَ قام وهو حيّ ونحن شهودٌ على ذلك.
وبطرس الذي أنكره قبل الصلب وقبل صياح الديك، اليومَ يُعلنُ وينادي باسمِهِ، فقد جاء في كتاب أعمال الرسل "باسمِ يسوع المسيح توبوا، وليعتمد كلُّ واحدٍ منكم" (أع38:2) فتُغفَر خطاياكم. فالمسيح ليس إنساناً عادياً، فجسدُهُ اليوم هو غير الجسد الذي مَلَكَهُ سابقاً، وإنما جسدٌ ممجَّد، لا يملك عليه لا الزمان ولا المكان، فقد تحرَّر منهم.
وهذه علامةُ إيمانِنا في موتِهِ وقيامتِهِ وظهوراتِهِ إذْ له القدرة، وكلُّنا نعلمُ أنَّ مَن له القدرة ما هو إلا الله نفسه. وهذا ما جعل إيماني وإيمان المؤمنين حياةً وبنطاقٍ واسعٍ في العالم وفي بلدانٍ مختلفة وحضاراتٍ متعددة ومتفاوتة، فهم يعبدون يسوع ربّاً وإلهاً.
نعم، إنّه حيّ، فقد أقامه الله (أع32:2)، كما قال يسوع للتلاميذ:"اذهبوا إلى العالمِ كلِّه، وتلمذوا جميعَ الأُمَم، وعمِّذوهم باسم الآب والابن والروح القدس" (متى19:28) وهذا ما جعلهم يسجدون له (متى17:28) وأخبروا عنه في اليهودية كلها والسامرة وأورشليم والعالم أجمع وإلى اليوم "وتكونون لي شهوداً". إنهم عاشوا وانطلقوا إلى المسكونةِ ليعلنوا قيامةَ المسيح.
فالحقيقة في إيماني ومسيحيتي أنَّ المسيحَ صُلِبَ وماتَ ودُفِنَ وقام في اليوم الثالث، وهذا ما يقوله فعلُ الإيمان وما تؤمنُ به الكنيسة والشعبُ المسيحي. فهذا إيمانُنا، وهذه عقيدتُنا، لذا نحن نقول مع الرسل "المسيحُ قام، حقاً قام، ونحن شهودٌ على ذلك" (أع32:2). وبقيامته رُفِعَ إلى السماء وجلس عن يمينِ الله (مر19:16)... نعم وآمين، والمجدُ ليسوع المسيح.