عشتارتيفي كوم- أبونا/
في ختام القداس الإلهي بمناسبة يوبيل المرضى وعالم الرعاية الصحيّة، الأحد 6 نيسان 2025، كانت المفاجأة بوصول البابا فرنسيس إلى ساحة كنيسة القديس بطرس، على كرسي متحرّك، برفقة ممرضه الشخصي. ومنح قداسته، الذي يقضي فترة نقاهة في بيت القديسة مارتا، إلى جانب المطران فيسيكيلا، بركة القداس الختاميّة لأكثر من 20 ألف حاج، معظمهم من المرضى، متمنيًا للجميع أحدًا مباركًا.
وكان المطران رينو فيسيكيلا، وكيل دائرة إعلان البشارة، قد ترأس القداس الإلهي في سنة اليوبيل للمرضى والعامِلين في مجال الصّحة، وقرأ خلاله عظة البابا فرنسيس، وفيها دعا قداسته "لجعل الألم والمرض فرصة لكي للنمو معًا، وزرع الرّجاء بقوّة المحبّة التي أفاضها الله أوّلًا في القلوب".
وفيما يلي النص الكامل للعظة:
"هاءَنَذا آتي بالجَديد، ولقَد نَبَتَ الآنَ أفَلا تَعرِفونَه؟" (أشعيا 43، 19). هذا هو الكلام الذي وجَّهه الله، على لسان النّبي أشعيا، إلى شعب إسرائيل في المنفى في بابل. كان وقتًا صعبًا لبني إسرائيل، وبدا لهم أنّ كلّ شيء قد انتهى. فقد تمّ احتلال أورشليم وتدميرها من قبل جنود الملك نبوخذ نصّر الثّاني، ولم يبقَ أيّ شيء للشّعب الذي تمّ ترحيله. بدا الأفق مغلقًا، والمستقبل مظلمًا، وتبدّد كلّ رجاء. كلّ شيء يدفع المنفيّين إلى الاستسلام بمرارة، وإلى الشّعور بأنّ الله خذلهم وزالت عنهم بركته.
ومع ذلك، في هذا السّياق نفسه، دعاهم الله إلى أن ينظروا إلى شيءٍ جديدٍ ينموّ. ليس شيئًا سيحدث في المستقبل، بل هو حادث منذ الآن، إنّه ينموّ مثل برعم جديد. ما هو هذا الشّيء؟ ماذا يمكن أن ينموّ، بل ماذا يمكن أن يكون قد نما من قبل في بيئة كلّها خراب ويأس مثل هذه؟
الذي كان ينموّ هو شعب جديد. شعبٌ، بعد أن انهارت أمامه ضمانات الماضيّ الكاذبة، اكتشف ما هو جوهري وأساسي: الاتّحاد والسّير معًا في نور الله (راجع أشعيا 2، 5). إنّه شعب سيقدر أن يبني من جديد أورشليم لأنّه تعلَّم، وهو بعيد عن المدينة المقدّسة، وقد دُمِّرَ الهيكل ولم يعد قادرًا على إقامة الاحتفالات الليتورجيّة فيه، تعلَّم أن يلتقي بالله بطريقة أخرى: بتوبة القلب (راجع إرميا 4، 4)، وممارسة العدل والحقّ، والاهتمام بالفقراء والمحتاجين (راجع إرميا 22، 3)، وأعمال الرّحمة.
وهي الرّسالة نفسها التي يمكن أن نقرأها أيضًا، بطريقة مختلفة، في نصّ الإنجيل (راجع يوحنّا 8، 1-11). هنا أيضًا نجد شخصًا، امرأة، دُمِّرَت حياتها: ليس بسبب المنفى الجغرافيّ، بل بسبب الإدانة الأخلاقيّة. إنّها امرأة خاطئة، كانت بعيدة عن الشّريعة وكان محكومًا عليها بالإقصاء والموت. ويبدو لها أيضًا أنّه لم يَبقَ لها أيّ رجاء. لكن الله لا يتركها. بل، في اللحظة نفسها التي فيها أمسك معذّبوها الحجارة بأيديهم، إذّاك دخل يسوع حياتها، ودافع عنها، وأنقذها من عنفهم، ومنحها فرصة لتبدأ حياة جديدة. قال لها: "إِذهَبي"، ”أنت حرَّة“، ”وقد نِلتِ الخلاص“ (راجع يوحنّا 8، 11).
بهذه القصّص المأساويّة والمؤثِّرة، تدعونا الليتورجيا اليوم، في مسيرة الزّمن الأربعينيّ، إلى أن نجدّد ثقتنا بالله، الذي هو دائمًا قريب منّا ليخلِّصنا. لا يوجد منفى، ولا عنف، ولا خطيئة، ولا أيّ واقع آخر في الحياة يمكن أن يمنعه من أن يكون واقفًا على بابنا يقرع، ومستعدًّا ليدخل بمجرّد أن نسمح له بذلك (راجع رؤيا يوحنّا 3، 20). بل، عندما تشتَدُّ المِحَن، وإذّاك بصورة خاصّة، تشتَدُّ نعمته ومحبتّه وتزداد لينهضنا من جديد.
الإخوة والأخوات، نحن نقرأ هذه النّصوص بينما نحتفل بيوبيل المرضى وكلّ العامِلين في مجال الصِّحَّة، ومن المؤكَّد أنّ المرض هو أحد أصعب وأقسى المِحَن في الحياة، حيث نلمس لمس اليد كم نحن ضعفاء. وقد يجعلنا نشعر مثل الشّعب في المنفى، أو مثل المرأة في الإنجيل: بلا رجاء في المستقبل. لكن الواقع ليس كذلك. حتّى في هذه اللحظات، الله لا يتركنا وحدنا، وإن سلَّمنا أنفسنا له، فإنّه يمكننا، وفي الوقت الذي تخور فيه قوانا، أن نختبر عزاء حضوره. هو نفسه، الذي صار على مثال البَشَر، أراد أن يشاركنا ضعفنا في كلّ شيء (راجع فيلبي 2، 6-8)، وهو يعرف جيِّدًا ما معنى الألم (راجع أشعيا 53، 3). لذلك، يمكننا أن نقول له وأن نوكل إليه ألمنا واثقين بأنّنا سنجد لديه الشّفقة والقرب والحنان.
وليس هذا فقط. بل إنّ الله، في محبّته الواثقة،يهتمّ لنا لكي نصير بدورنا، بعضنا لبعض، ”ملائكة“، رسلًا لحضوره، إلى حدّ أنّه أحيانًا، سواء لمن يتألّم أو لمن يعتني به، يمكن أن يتحوّل سرير المريض إلى ”مكان مقدس“ للخلاص والفداء.
أيّها الأطّباء والممرضون وأفراد الطّاقم الصّحّي الأعزّاء، بينما تهتمّون بمرضاكم، وخاصّة بالأضعفين، الرّبّ يسوع يمنحكم الفرصة لتجدّدوا حياتكم باستمرار، فتغذّوها بالشّكر والرّحمة والرّجاء (راجع مرسوم الدّعوة إلى اليوبيل العادي،الرَّجاءُ لا يُخَيِّبُ، 11). إنّه يدعوكم إلى أن تنيروها بتواضع واعين أنّ لا شيء ميؤوس منه، وأنّ كلّ شيء هو عطيّة من الله، ويدعوكم إلى أن تضيئوا الحياة بتلك الإنسانيّة التي تختبرونها عندما تتركون المظاهر، ويبقى ما هو الأهمّ: أعمال المحبّة الصّغيرة والكبيرة. اسمحوا أن يدخل حضور المرضى في حياتكم ويكون لكم عطيّة، ليشفي قلوبكم، فينقِّيها من كلّ ما ليس بمحبّة، ويبعث فيها الدِّفءَ بنار الشّفقة العذبة والمتَّقِدة.
ومعكم أيضًا، أيّها الإخوة والأخوات المرضى الأعزّاء، أشارككم كثيرًا في هذه اللحظة من حياتي: خبرة المرض، والشّعور بالضّعف، والاعتماد على الآخرين في أمور كثيرة، والحاجة إلى الدّعم والسّند. ليس الأمر سهلًا دائمًا، لكنّه مدرسة نتعلَّم فيها كلّ يوم أن نُحِبّ ونترك غيرنا يُحِبُّنا، بدون أن نطلب أو أن نرفض، وبدون أن نشكو أو أن نيأس، بل شاكرين الله والإخوة على الخير الذي نقبله منهم، ومستسلمين وواثقين لما سيأتي بعد. غرفة المستشفى وسرير المرض يمكن أن تكون أماكن نسمع فيها صوت الله يقول لنا أيضًا: "هاءَنَذا آتي بالجَديد، ولقَد نَبَتَ الآنَ أفَلا تَعرِفونَه؟" (أشعيا 43، 19). وهكذا، نجدِّد إيماننا ونقوّيه.
البابا بندكتس السّادس عشر، الذي ترك لنا شهادة بليغة على الطُّمأنينة في أثناء مرضه، قال: "مقياس الإنسانيّة يتحدّد جوهريًّا في علاقتها مع الألم"، و"المجتمع الذي لا يستطيع أن يقبل المتألِّمين [...] هو مجتمع قاسٍ ولاإنسانيّ" (رسالة بابويّة عامّة، بالرجاء مخلَّصون، 38). هذا صحيح: مواجهة الألم معًا يجعلنا أكثر إنسانيّة، والمشاركة في الألّم هو مرحلة مهمّة في كلّ مسيرة نحو القداسة.
أيّها الأعزّاء، لا نبعد الضّعفاء عن حياتنا، كما تفعل اليوم للأسف بعض العقليّات المعاصرة في بعض الأحيان، ولا نُقْصِ الألم من بيئتنا. بل لنجعل الألم والمرض فرصة لكي ننموّ معًا، ونزرع الرّجاء بقوّة المحبّة التي أفاضها الله أوّلًا في قلوبنا (راجع رومة 5، 5)، والتي تبقى إلى الأبد، بالرّغم من كلّ شيء (راجع 1 قورنتس 13، 8-10. 13).