ولد المسيح ... هاليلويا
إنه عيدُ الميلاد. عيدُ ميلاد طفل المغارة. أحبَّنا فسكنَ بيننا كما يقول إشعيا النبي. إنَّ ذلك حدثٌ فريدٌ في التاريخ، فبولس الرسول يقول:"لمّا تمّ مِلءُ الزمان، أرسل اللهُ ابنَه مولوداً من عذراء تحت الناموس، ليفدي الذين هم تحت الناموس"
(غلا6:4-7). ولد في بيتَ لحم اليهودية (لو1). إنها مسيرةٌ إنسانية جديدة، ومصيرُ المسكونةِ تحقّق تلك الليلة ورُسِمَ في بيتَ لحم. فاللهُ اختارَ خلاصَ الإنسان وانتصارَ المحبةِ على البغض، والسلامَ على الحرب، والخيرَ على الشرّ.
في هذه الليلةِ دولٌ تُمحى وأخرى تُبنى، وحضاراتٌ تُداسُ بأقدامِ الغُزاة، ولكنَّ الميلادَ لا زال هو هو، في الأمسِ كان، واليوم موجود، وغداً سيكون، فهو هو أمس واليوم وإلى الأبد (عبر1:18).
في الميلاد، أو بالأحرى في هذه الليلة، تبدَّلَ التاريخُ، وتغيَّرَ وجهُ العالَم، ويبقى الميلادُ محطةَ نَظَر الجميع لأنّه مَعينُ المحبة. فالميلاد هو حقيقةُ إيمانِنا، وسموّ عقيدتِنا المسيحية، حيث من الميلاد بدأَ التاريخ، واللهُ اختار السلامَ وليس الحرب، والخيرَ وليس الشعوذةَ والشرَّ والفساد.
وهذا كان مخطَّطُ ربِّ السماء، وإنْ كانتِ الحياةُ قاسيةً فولادة المسيح الحيّ تُبقي رجاءَنا. وأرجُلُنا تحرثُ أرضَنا، وتزرعُ الأملَ في حقولِ القلوب. وعلينا أنْ نحملَ ترتيلةَ الملائكةِ في مولِدِهِ، الذين قالوا وأنشدوا ساعةَ ولادتِهِ "المجدُ للهِ في العُلى، وعلى الأرضِ السلام، وفي الناسِ المسرّة" وهذه الأنشودةُ تجعلنا أنْ نحملَها، ليس في أفواهِنا بل في قلوبِنا، وهذه الأنشودةُ لا تنتهي بل أصبحت مسيرةَ رسالةٍ سامية.
فالإنسانُ لم يُخلَق للبكاء رغم مروره بالأيامِ الظلاميّة، فَمَعَ الميلاد لا زالت أحداثُ عالَمِنا أكثرُها مأسويةُ. فكثيرون هم الأطفال الذين حُكِمَ عليهم بالعذاب بسببِ نزاعاتٍ لا إنسانية. وعديدةٌ هي عملياتُ إجهاضٍ يذهب ضحيّتُها ملايينُ الأجنَّةِ في أرحامِ أمّهاتِهِم. وأرقامٌ لا تُحصى لأطفالٍ هم من ضحايا الحروبِ والمصادماتِ الأتنيةِ والدينيةِ والسياسية. أطفالٌ في عمرِ الزهور يُفَخَّخون لقتلِ الأبرياء. خصوماتٌ ومجابهاتٌ في الظلمِ والتمييز تنهشُ أجسامَ الأطفالِ البريئة، فيكون الأطفالُ قَتلى دون حقوق. وفي شرقِنا لا زالتِ الأزماتُ والنزاعات، فنحن في زمنٍ نحضنُ الحاسوبَ في هياكِلِ عقولِنا.
اليومَ نعيشُ في عالمٍ عديمِ الثقةِ والشفقة، يقولُ ما يشاء وليس الحقيقة وإنْ كان قد قالَ "هذه حقيقة". وجوهٌ بريئة أَسْمَرَتْها الشمسُ الحارقة من أجلِ رزقِ الحياة في التسوّلِ والإستعطاء. اليوم سيدُ العبيدِ في معيَّتِهِ أطفالٌ صغار لا يعلمون أنَّ للشرِّ مكاناً في قلبِ سيِّدِهِم، يأخذهم ويوزّعهم في تقاطعاتِ الطرقِ ومفترقاتِ المسارات من أجل الاستعطاء والتسوّل، مهدِّداً إيّاهم بالقتلِ والحبسِ وكسرِ حتى عظامِ أجسادهم، فيحاسبهم مساءً على ما حصّلوا عليه من مالٍ حرام. فتراهم بعد أشهرٍ من الأوائل في أكاديميةِ السرقاتِ والقتلِ والجريمة، والمتميّزينَ في معاهدِ الرذيلةِ وبيعِ الأجسادِ والفساد.
لقد ماتَ ضميرُ البشريةِ، وتسلّط الشرُّ على أعمالِ الخير، وأصبح الدرهمُ القاتلُ سبباً في تدميرِ حياةِ الله، وبالذات في قلوبِ البراءةِ وفي الضميرِ الحي. وأصبحتِ الطفولةُ سلعةً في يدِ التجّارِ الفاسدين الذين باعوا حتى إيمانِهِم من أجلِ دنانيرِهِم. كم كنّا نرى - ولا زلنا نعاينُ ذلك، ولكن ليس للأفواهِ والكلماتِ من مُجيبٍ أو مستمعٍ - أطفالاً يستلقون في الشوارعِ ويتجوّلون في ظلماتِ الليل، فأصبحنا بلا شفقةٍ، وأصبح أطفالُنا مخدوعينَ بسبب كسرةِ الخبزِ ودرهمٍ من المالِ. وبسببِ الأزواجِ الفاشلين الذين يمارسون هيمنةً عديمة الرحمة، فيبيعوا أجنَّتَهم بأموالٍ حرام. إنهم تجّارٌ أشرار وليس آباءٌ أبرار، فقد خلعوا الإنسانيةَ من جِباهِهِم. لذا نحن اليوم لسنا بحاجةٍ إلى أسطرٍ جميلة، ولا إلى كلماتٍ منمَّقةٍ وملونة، إنما نحن اليوم أمامَ أزمةٍ إنسانيةٍ وضميريةٍ في إنقاذِ الطفولة، وإذا ما أنقذناها أَعْدَدْنا شعوباً مُحِبّةً ومتعلِّمة، تكرهُ الأحقادَ وتبغضُ الحروبَ. أليس الجوعُ والعطشُ والفقرُ من أزماتِ الحروب؟ أليس الذين يخترعون حبوبَ منعِ الحمل وقَتْلِ الأجنَّةِ في بطونِ أمّهاتِهِم يساهمون في تدميرِ الإنسانية؟ أليس الأزواجُ الذين يقرّرون ما يشاءون من الأولاد مُدَّعينَ أنَّ الزمانَ قاسٍ، وأنَّ المرأةَ ليس بإمكانِها أنْ تكونَ حاملاً لا لشيءٍ إلا من أجلِ أنانيَّتِها؟ وكأنّي بها وبزوجِها قائينٌ آخر يعبثُ بأبرياءِ الله والحياة. فإلى متى يسودُ قانونُ الظلمِ والغاب في افتراسِ فَلَذَّاتِ أكبادِنا، وشَتَلاتِ ربوعِ حياتِنا؟ فما الطفولةُ إلا موهبةُ ربِّ السماء، إنها المسيح في مذودِ الفقراء.
إلى متى يبقى الطفلُ مشرَّداً، أو بضاعةً يُتاجرُ بها الأسيادُ جوعاً وعطشاً ومرضاً وفقراً؟ أليس طفلُ المغارةِ جاءَ يذكِّرُنا أنَّ لنا أبٌ واحدٌ، جاء إلينا حاملاً عطيَّةَ اللهِ وكرامةَ الإنسان، ويؤكِّدُ لنا أنَّ الحقدَ يشوِّهُ طِيبةَ القلبِ، والشرَّ يبدِّلُ وجهَ الإنسان، والأنانيةَ تُنجِبُ الفراغ، والكبرياءَ يدفعُ إلى وحدةِ الموت؟ أليس طفلُ المغارة جاء ليعلِّمَنا أنَّ الحياةَ والميلادَ مَعينانٍ لمحبةٍ لا تنتهي ولا تنضب؟ أليس الميلادُ تَخَطٍّ لكلِّ التباسٍ وامتعاض؟ يسوع الملفوفُ بالأقمطة هو نفسه الذي لُفَّ بالكفن بعد صَلْبِهِ، وَوُضِعَ في القبر. والمسيح وُضِعَ في مهدِ لَحْدٍ. فقد وُلِدَ ليموت ولنحيا به. وُلِدَ لِيَهِبَ الحياةَ فداءً عن الكل. فنحن لسنا إلا ضميرُ الدنيا وضميرُ الشرق، فجميعُنا نحمل كلمةَ تَجَسُّدِهِ التي كُتِبَتْ في الإنجيلِ المقدس والذي نحملُهُ في إيمانِنا، فلا يجوز أنْ نموتَ ساكتين لأنَّ الظلمَ يعملُ فينا والفساد، بل لا يجوز أنْ نصمتَ صمتاً مميتاً ومريباً، فالربُّ الذي وُلِدَ اليوم يقول:"أنا معكم" (متى20:28).
إنه زمنُ الشهادةِ لحقيقةِ الحياة عِبْرَ مسيرةِ الحياة في هذا الوطن. فما نبتغيهِ توحيدَ كلمتِنا وهدفَ غايتِنا لكي نبقى ونستمر في أنْ نكونَ جسوراً للحوارِ والمسامحةِ والغفران في كسرِ حواجزِ الاختلاف. فإمّا أنْ نوجَدَ من أجلِ السماء ونحن على هذه الأرض، وإلا فلا حقيقة في مسيرةِ الزمن لأنَّ معركتَنا كما يقول بولس الرسول ليست مع اللحمِ والدم بل مع الأرواحِ الشريرة (أفسس12:6). فميلادُ المسيح ما هو إلا لحقيقةٍ تجسَّدَتْ فينا ومن أجلِنا، وما ذلك إلا تجديدٌ لإيمانِنا ولمسيحيَّتِنا حيث يقول يوحنا:"فيه كانت الحياة" (يو1).
لذلك علينا أنْ نُدْرِكَ أنَّ الميلادَ ليس عيداً عابِراً بل عيدُ تجديدٍ لِجُرْنِ عماذِنا ولإيمانِنا. فلنعمل من أجلِ خلاصِنا في قولِ الحقيقة، فالربُّ اختارَنا للسلام وليس للحرب أو للكراهية أو للحقد، وهذا ما يظهرُ لنا جَليّاً عِبْرَ الحوارِ الذي أجراه المسيح مع السامرية. فالله ينظرُ إلى قلوبِنا وليس إلى أفواهِنا. فكلمتُنا حينما نقول الحقيقة تشهدُ للذي قال:"قولوا الحقّ، والحقّ يحرّركم" (يو32:8) ومع هذا الطفل لنُنقِذ الأطفالَ كي نُنقِذَ آمالَ البشرية. إنه النداءُ النابعُ من قلبِ الإنسان الذي يحملُ همومَ الفقراءِ والضعفاءِ والمرضى. فمرضُنا اليوم هو الخوف من المستقبل، والجميعُ يتساءل: ماذا سيحلُّ بنا؟ وكيف سيكون مستقبلُ أبنائِنا؟ لكن المؤمن يعرفُ جيداً أنَّ حياتَه هي بينَ يَدَيْ الله الذي يحبُّه. نحنُ اليوم أطفالٌ بعقولِنا، وكبارٌ بإيمانِنا، ورجالٌ بأجسامِنا وحياتِنا. نفتشُ عن الكمالِ بطفلِ المغارة الذي حلّ بيننا. علينا أنْ نعطيَ الشهادةَ لجماعاتٍ متّحدةٍ ومنفتحةٍ، يسودُها التآخي والتسامحُ والحقيقة. وما الحقيقةُ إلا أنَّ الطفلَ بيننا، أنَّ الحياةَ أُعطِيَتْ لنا. نحتاجُ اليوم إلى مدارس تربّي القِيَمَ والمحبةَ والأخلاق، وكلُّ بيتٍ هو مدرسة. نحتاجُ اليوم أنْ نعلِّمَ طفولَتَنا سُبُلَ الحياة، وما هذه إلا أمانةُ الأساتذةِ والمعلّمين والمربّين، أمانةٌ سماوية، والمثال الكبير هو يوسف ومريم.
لا نَخَفْ أنْ نسيرَ ليلاً نحو المغارة، فهو النورُ الذي يضيءُ لنا في الطريق، وهو نفسُهُ الكلمة أضاءَ للرعاة وهم يذهبون لينظروا هذا الأمر الذي حصل (لو15:2) حيث الله الكلمة ينتظرنا ويقولُ لنا أنْ نبقى صادقينَ مع كلِّ إنسان لأنَّ أحداثَ العالم لا تنتهي ولا مجالَ للكلام عنها. فكما انتهت حربُ لبنان، وإن شاء الله غزة، وسوريا، وحرب روسيا وأوكرانيا، وكلُّ ذلك يشكّلُ إطاراً لتجلّي الربّ بيننا. ولكن لنعلمْ أنْ نتخطَى هذا الإطار من أجلِ الحدث الأهمّ. فالحَدَثُ يهمُّنا جميعاً، فربُّ السماءِ سَكَنَ بيننا وأحبَّنا، ودخلَ التاريخَ بإقامةِ علاقةٍ أخويةٍ مُحبّة معنا. فلنكن أوفياءَ لهذه العلاقة.
فالميلاد يمنحنا نورَ السماء عندما تَظْلَمُّ الأرضُ، ويَهِبُنا كلمةَ القبول عندما يرفضنا كبارُ الزمن، ويحترمُ حريَّتَنا عندما يكبِّلونَنا بقيودٍ. فما علينا إلا أنْ نشرِّعَ أبوابَ قلوبِنا ليدخل ويكون معنا ويسكن فيها، وتلك هي رسالةُ السماء. فطفلُ المغارة وحدُهُ يتوقُ إلى عملِنا، وبإمكانه أنْ يغيّرَ وجهَ الكون، ويُعيدَ الإنسانيةَ إلى طريقِها الصواب، وعِبْرَ هذا الطفل المولود نختبر ويختبر البشرُ كم أنَّ الله قريبٌ منهم ومُحِبٌّ لهم، لا بل ساكنٌ فيهم ومن أجلِهِم. لذلك يُطلَبُ منّا أنْ نسهرَ في الصلاةِ والتأمّل كما كانتِ العذراءُ القديسة تحفظُ الكلامَ وتتأمَّلُ به، كي نتحلّى ببساطةِ الأمور من أجلِ أنْ نكونَ في الميلاد، ولنؤمن أننا أعطينا ابناً، إلهاً جبّاراً رئيس السلام.
ختاماً: يا طفلَ المغارة، جئنا في هذه الليلةِ نحتفلُ بميلادِكَ. فَطَهِّرْ قلوبَنا من دَنَسِها. اطردْ عنّا الحقدَ والكراهيةَ والبغضاء، وأملأها حبّاً وغفراناً وصفاء. واجعلنا أنْ ننظرَ إلى الأطفالِ الأبرياءِ الفقراء بعينِ الرحمةِ والحنان. فأطفالُ العراق ولبنان وسوريا وغزة وكل مكان هم أولادُنا وإخوتُنا وصغارُنا. من أجلِنا وأجلِهِم سَكَنْتَ في المغارة. واجعلنا أنْ لا نصرخَ قائلين: هل نبقى لِدَفْنِهِم أحياء؟ فيا ربَّنا، اليوم بولادتِكَ تدعونا أنْ نجدِّدَ أنفسَنا وأفئدتِنا. طالبين من أمِّنا القديسة مريم العذراء، أمّ البشر، شفيعة المؤمنين والمخلصين، أنْ تدلَّنا لنأتي لزيارتِكَ في هذه الليلة مع الرعاةِ السهارى، حاملين نورَكَ وضياءَكَ، لنكون لكَ، ونجدّد إيمانَنا بكَ، ففيكَ كانتِ الحياة، وأنتَ الحياة، كنتَ النور (يو1).
وكل عام وأنتم بخير ... ولد المسيح ... هاليلويا