قال الإبن الضال لأبيه ( يا أبتِ إني خطئت إلى السماء وإليك .. )
نطالع في إنجيل البشير لوقا ( 11:15-32 ) قصة الإبن الشاطر ، الإبن الأصغر الذي ظل الطريق عندما طلب حصته من الميراث علماً بأن أبيه ما يزال على قيد الحياة فلا يحق له أن يطالب بحصته ، ومن ثم ينفصل عن العائلة ويسافر إلى بلد بعيد . هنا نقول إبتعاده عن أبيه يعني إبتعاده من مصدر النعمة ، لأن أبيه هو دائرة الإيمان فعليه أن لا ينفصل ويبتعد عنه كما خطأ لوط وأنفصل عن عمه إبراهيم الذي كان له مركز الإيمان فسقط لوط في متاعب كثيرة وفشل . إبتعاد الإبن الصغير عن أبيه هو إبتعاده من النور ليسير في طريق الظلال والفشل . فالبلد البعيد الذي أشار إليه الكتاب يرمز إلى الإبتعاد عن الحق وعن الطاعة والوحدة . قرر الإبتعاد بسبب تشتت الأفكار وتقرير المصير بوفق أنانيته التي دفعته للإنطلاق للعيش عيشة إسراف . كان قراراً خاطئاً يشبه ما تأمل به الغني الغبي الذي ملأ أهراء كبيرة من القمح لكي يأكل ويشرب ويتنعم ، لكن الله لم يعطي له الوقت لكي يتنعم ، فقال له ( يا غبي في هذه الليلة تسترد نفسك عنك ، فلمن يكون ما أعدته ) قرارات كثيرة يقررها الإنسان ، بينما يكون مصيره كمن يعيش ويخطط لنفسه الفشل .
بتمرد الإبن الأصغر إبتعد من نبع الوجود لأنه كان يظن بأنه سيحصل الحرية ويتحرر من طلبات أبيه ، الأب الذي يمثل الله الآب أعطاه الحرية كما يعطي الله حرية لكل إنسان لكي يقرر مصيره . ترك بيت أبيه وسار نحو المجهول المظلم وهناك بدد كل ماله ، وسرعان ما وصل إلى حالة الجوع فإضطر إلى العمل كعبيد فوجد عملاً يليق بمستوى فشله . رَعي الخنازير ، وجاع ، وهناك شعر بالفشل فبدأ يفكر التفكير اللائق لكي ينقذ نفسه من الهلاك . فالخطوة الأولى كانت إعترافه بخطأه . ومن ثم إعلان قرار العودة إلى الوراء للرجوع إلى أبيه ، لا كإبن كما كان ، بل كخاطىء تائب يعمل عند أبيه كأجير . قال في نفسه ، أستحق العتاب من أبي وحتى وإن وصل أبي في إنتقامه إلى قرار قتلي لأنني سبقته بعد ما قتلته كأب لي .
نعم يستطيع الأب أن يتجاوز توبته ولم يمد له يد العون كما فعل الكاهن واللاوي في مثل السامري الصالح ( لو 31:10 ) لكن الأب تصرف كما يتصرف الله مع كل خاطىء تائب فيحصل الفرح في السماء . هكذا حصل فرح في بيت أبيه عندما عاد تائباً . ولم يسأل أبداً عن كل ما فعله الإبن في تلك الفترة التي تمرد فيها لأنه وبسبب محبته وفرحه لا يريد أن يرى في إبنه الفشل ، فلهذا لم يحكم عليه بشىء ، ولم يعاقبه ، كما لم يطلب منه الإعتذار لكي لا يشعر إبنه بإهانة كرامته لأنه كان أباً محباً ولا يريد أن يخرج من تلك المحبة الطاهرة ، بل تاثر بأنه المجروح فحاول معالجة فشله لكي يعيده إلى الحياة الأولى لأنه كان ميتاً فعاد إلى الحياة ، وهكذا لا يجوز أن تنغلق محبة الأب لأبنه مهما كان فاشلاً ، بل أن يستقبلهُ بالعطف والحنان والرحمة لكي يساعده للعودة إلى الحياة فيستقبله في رحم رحمته لكي يحيى إبنه الهالك المحتاج إلى من ينقذهُ .
قال الأب الحنون ( إسرعوا فأتوا بأفخر حلّة وإلبسوه ، وإجعلوا في أصبعه خاتماً ، وفي رجله حذاء . وإتوا بالعجل المسمن واذبحوه فنأكل ونتنعم ... ) " لو 15: 22-24 " .
غضب الأخ الأكبر عندما سمع تفاصيل الحدث ، بدأ يغلي بالحسد والحقد فرفض الدخول كما رفض أقوال أبيه له والذي قال ، أن أخاك كان ميتاً فعاش ، وكان ضالاً فوجد . كما قال له ،كل ما هو لي فهو لك . لكن ظل قلب الإبن الأكبر مغلقاً مجرداً من المغفرة حتى لأخيه الوحيد المحتاج إلى من يرحمه ، والله يقول لكل إنسان ( إغفر لأخيك سبعين مرة سبع مرات .. ) أي لا حدود للمغفرة . هنا فشِلَ الإبن الأكبر في مسامحة أخيه التائب ، فبدأ يعبِّر لوالده بكلمات محشوة بإتهام لأخيه بأنه أكل مالك مع البغايا . فإذا كان أخوه ذاهباً إلى كورةٍ بعيدة ، كيف عرف بأنه عاشر البغايا ! فهل كان هو يُفَكر في مثل هذه الخطيئة فأسقطها على أخيه كمجرد تهمة يميل به قلب أبيه لكي يتخذ موقفاً كموقفه ضد أخيه ؟ كذلك فشِلَ الإبن الأكبر في فهم صورة أبيه الحقيقية . فحساباته كانت خاطئة على أخيه وكذلك على أبيه الذي قال له ( ها أني أخدمك منذ سنين طوال ، وما عصيت لك أمراً قط ، فما أعطيتني جدياص واحداً لأتنعم به مع أصدقائي ) موقفه هذا يشبه موقف الفريسي من العشار التائب ، قال ( أللهم ، شكراً لك لأني لست كسائر الناس السراقين ... ولا مثل هذا العشار ! إني أصوم مرتين في الأسبوع ، وأؤدي عشر كل ما أقتني ) " لو 18: 11-12 " .
مصدر تخيلات الإبن الأكبر قادته إلى الفشل ، وإلى إعلان صفحة حقيقته ، وما كان يحمله قلبه من أفكار خاطئة لأن ( من القلب تنبعث المقاصد السيئة ... ) " مت 19:15 " .
الأب لا يدخل في علاقة نفعية مع أبنائه ، كما لا يريد أن يميّز بينهم لكي لا يظلم أحداً . والأب خرج من البيت ليستقبل إبنه الأكبر الغاضب الذي كان يتعذب بنار الحسد والحقد ، وكم كان يحرن نفسه من حرارة الحياة والحب حتى لأقرب الناس إليه . لم يترك في قلبه موضعاً لإستقبال من هو بحاجة إلى رحمته والله الذي خلقه على صورته يطلب منه بأن يرحم كما هو يرحم كل تائب ، المحبة تحتوي الجميع ، تقول الحكمة عن رحمة الله ( ترحم جميع الناس ، لأنك على كل شىء قدير ... ولا تمقت شيئاً مما صنعت ) " حك 23:11 " .
حاول الأب أن يدرج أبنه الغاضب بلهجة الحنان ، فقال ( يا بني ) لأنه لا يريد أن يشعر الإبن الأكبر بأنه مظلوم ، كما أراد أن يغيّر موقفه من أخيه الأصغر لكي ينظر إليهِ بنفس نظره فيقبله كما قبله هو . فكشف حب أبيه له ويرى الحياة تعود إلى نفس أخيه بعد أن مات .
البشير لوقا لم يكتب لنا بأن الأبن الأكبر دخل إلى تلك الوليمة . وقد يكون قد رفض الدخول . وإذا فرضنا ذلك . فهذا يعني بأنه لم يستطيع أن يولد مرة أخرى في رحم أبيه المحب كما عاد أخيه ليولد ولادة جديدة فتجتمع العائلة مرة أخرى في قلب الأب المحب للجميع .
توقيع الكاتب ( لأني لا أستحي بالبشارة ، فهي قدرة الله لخلاص كل من آمن ) " رو 16:1"