تواصلت
فعاليات اليوم الثالث من الحلقة الدراسية الثانية التي تنظمها المديرية العامة
للثقافة والفنون السريانية حول دور السريان في الثقافة العراقية، دورة (إدمون
صبري)، على قاعة فندق عنكاوا بالاس صباح الاحد 23 تشرين الثاني الجاري، حيث بدأت
الجلسة الصباحية بالوقوف دقيقة صمت على روح الشاعر والقاص الراحل سركون بولص إذ
تصادف اليوم الذكرى الرابعة على رحيله، وقد تمحورت الجلسة حول (تجربة سركون بولص)،
بإدارة الشاعر ابراهيم الخياط، بوقفة صمت حدادا على روح الشاعر العراقي السرياني
الكبير (سركون بولص) الذي شاءت الاقدار ان تصادف اليوم ذكرى وفاته، منطلقين ببحث الباحث
محمد علوان جبر (سركون بولص بين القصة والشعر) والذي بدأ بحثه بالسؤال التالي
(لماذا كتب سركون بولص القصة؟)، واضاف الباحث واصفا سركون بولص بالستيني الجميل
الذي أقام علاقة متوازنة مع الشعر، وهل يمكن ان ينطبق عليه ما قاله الامريكي
الشهير فولكنز في مقابلة معه اوائل الستينات من القرن الماضي حينما سئل عمّن يكتب
القصة او الشعر او الرواية قائلا : (عندما لايجد من يكتب، أن باستطاعته كتابة
الشعر فانه يلجأ الى كتابة القصة القصيرة التي تعد شكلا متسلطا ومثيرا بعد الشعر،
وحين يفشل في الأثنين يرتمي في احضان الرواية) وهكذا لم يكن سركون بولص يكتب
الرواية لذا لم يصعب عليه يومها كتابة الشعر او القصة.
واضاف
الباحث قائلا: (لقد اقام سركون من خلال قصصه القليلة علاقة تجريبية متوازنة بين
الحكاية والشعر علاقة درامية متمثلة بالجمل الشعرية الجميلة التي كان يبثها بين
السطور والتي لم تنفصل عن المتن الحكائي الدروس بعناية) .
فيما
تطرق الباحثعلي سعدون في بحثه الموسوم (سركون بولص...مرارة الـتجربة
والـتجديد..مقترب لقراءة عظمة أخرى لكلب القبيلة) الى السمة التي يتعارض في متنها
سركون بولص بوصفه مثقفا ومنتجا للنص الشعري المصطدم بالحياة وفلسفتها بعيدا عن
القامع الايديولوجي الكبير..، فضلا عن تمرده إزاء الخطاب الشعري المنفعل بكلائش التجديد
في حينها "تجربة السياب ونازك الملائكة" واختلافه الواضح عن شكل ومضمون
الشعرية العربية برمتها ، وهي المغامرة الأكثر جرأة وتمايزا في تجربة الستينيات.،
مشيرا الى:( اننا نقول ذلك مدركين تماما قوة التأثير الذي مارسه رواد قصيدة
التفعيلة على مجمل الخطاب الشعري العراقي والعربي والذي امتد إلى قرون متعاقبة دون
اجتراحات حقيقية للتغاير.. إذ تنطلق نصوص بولص من عراقية صميمية إلى أفق إنساني أو
عالمي بسبب نزوحها المزمن نحو موجبات جمال إنساني باذخ، تعكسه الهروبات المتعاقبة
في مسيرة حياته – هنا أو هناك – نقول
هروبا لرفضه التدجين، لم يستقر طويلا هنا، ولم يستقر طويلا هناك، لا مكان يمكنه أن
يحتضن طيران شاعر بقامته، الأمر الذي يفسر صعوبة البرهنة على شرقية نصوصه، ذلك
أنها تحمل معان أعمق من أن تختص بمكان معين ذلك أنها تنطلق من العراق / من الجسد
المسجى على خارطة الروح بآلامه وسعاداته وأغانيه الشجية وصولا إلى تاريخانية الألم
والفجائع المتراكمة.. لذا يمكننا وسم نصوصه بنصوص روح هائمة، قلقة غير مستقرة،
تنشد المعرفة بجوانيات الحياة ولا تهتم كثيرا بقشورها وزوائدها.. من هنا ربما جاءت
قطيعته مع البلاغة وتشبثه بالاستعارة والدخول في خضم لغة كهنوتية بإمتياز.
بينما
تناول الباحث علي حسن الفواز غربة سركون بولص في بحث حمل عنوان (سركون بولص المنفى
ووحشة الشعراء المطرودين) متسائلا: هل يمكن في هذا السياق توصيف الشاعر سركون بولص
بانه مثال أنسوي للشاعر المصاب بجحيم المنافي، واستلال الامكنة؟ وهل يمكن لهذا
الجحيم ان يضع تجربة بولص ازاء روحه اللجوجة والشغوفة بالحياة واللذة والكلام؟ وهل
يمكن ان تكوّن حياته الحافلة بتحولات عميقة وصدمات فادحة، أثرا شعريا وانسانيا
لنموذج الشاعر العراقي العابر لمراثي الجرح النرجسي، والباعث على استكناه مايضمره
النسق المغلق لتاريخ العذابات العراقية المكشوفة على تعريات المكان والجسد
والهوية، خاصة وان الستينات من القرن الماضي كانت زمنا سياسيا وثقافيا محمولا على فداحة المواجهة، وعلى غواية الحجيم، وعلى
فوبيا صناعة الصدمات والتعريات وما يقابلها من النقائض والاحتجاجات والهزائم.
مؤكدا
ان:"شعرية سركون بولص تملك في سياق مغامرتها الجريئة هذا النزوع المباشر
للتجاوز، وعدم الخضوع لاشاعات القصيدة التي ارتبطت بالاجيال، او حتى بالآثار التي
اصطدم بها في رحلاته الدائبة، فهو ينغمر بما يكتشفه وبما يلتذ به، وبما يمنحه
احساسا غامرا بالالم، هذا الالم الوجودوي الباعث على المتعة، وهذا الانغمار الشعري
هو الذي جعل سركون اكثر انحيازا لذاته، تلك الذات التي ترى مايراه الغائب، وتستعيد
ما ينفعل تحت الكلام والبوح والاعتراف، فهو لايؤمن بالوصول قدر ايمانه بالطرق التي
تحتفي به، الطرق التي تساكنه بلذة الاكتشاف والرحيل والبحث عن الاثر الذي قد
لايكون موجودا، القصيدة هي حيازة التفاصيل، الشهادات، اليوميات، وهي التركيب الضاج
الذي يجعل هذه الحياة قابلة للحياة، والمضادة للموت، القابلة لاثارة الغواية على
استحضار اللذة الكامنة في التفاصيل، والمناقضة لفكرة الغياب".
تلاه الاستاذ
فاضل ثامر وبحثه الموسوم ( في الطريق الى عالم سركون بولص)، منوهاً بان:(سركون
بولص من الشعراء الذين لايجود الزمان بامثالهم بسهولة فقد كان حتى مجايلوه واقرانه من شعراء الموجة الستينية
علامة فارقة ويمكن ان نقول انه من القلائل الذين كانوا يغنون خارج السرب، لقد
تفجرت عبقرية هذا الشاعر داخل مختبر الحداثة الشعرية وتحديداً ضمن بوتقة احلامنا
الثقافية المكانية المدهشة، مدينة كركوك، التي قدمت كوكبة لامعة من ابرز ممثلي
الستينات في عراق القرن الماضي لكنه كان يمتاز عنهم في اسلوبه الشعري الذي انتهجه
منذ البداية).
وعن
مدينة كركوك ودورها في تبلور ابداعات سركون بولص، اضاف:( لايمكن ان ننفي دور
الجغرافية فمدينة كركوك جغرافياً هي واسطة العقد بين الشمال والجنوب وهي التي تصل بين العديد من المدن
العراقية وكانت الجيوش والقوافل المختلفة تمر منها ولايمكن ان نهمل دور التاريخ
فهذه المدينة تنهض على ارث تاريخي رافديني عريق، وقلعتها التاريخية تنطوي على
اسرار طالما شحذت مخيلة ابنائها ومبدعيها).
فيما كان ختام الجلسة مع الباحث جهاد مجيد الذي
تناول البنى الاساسية لنصوص سركون بولص القصصية، حيث اكد في بدايته ان:"
سركون ربما أدرك قبل غيره أنه في الشعرأفضل منه قاصا، ما يفسر ذلك أنكبابه على
الشعر ومواصلته الطويلة لمشروعه الشعري حتى آخر لحظة في حياته وأعطى فيه كما غزيرا
إضافة الى تميزه النوعي عراقيا وعربيا وربما أكثر من ذلك، بينما كان عطاؤه القصصي
شحيحا تمثل بخمس عشرة قصة"، وعن بطل
قصص سركون بولص يقول:" بطل سركون بولص دائما فتى وحيد معزول في مكان معزول
يكيل السخط والسباب والنفور من الجميع، هذه الرؤيا سادت في نصوص تلك المرحلة لكن
سركون بولص ابرز من مثل هذا الإتجاه وأفضل من كتب نماذج تجسده في نسغ تصاعدي في تطوره على صعيد الجملة الساردة وعلى صعيد
معالجة مشهده المسرود ..ومشهد سركون السردي اُحادي المكان اُحادي الزمان، لا
إمتدادات مترامية في المكان ولا تنقلات طويلة في الزمان. مكانيا ينتهي في المكان
نفسه أو قريبا منه وزمانيا ينتهي بعد ان يبدأ بساعات لايستغرق اكثرمن ساعات يوم واحد .ولكن في
الحالتين ينمو المشهد باضطراد ويتصاعد بحيوية ".
أفسح
بعدها المجال امام تساؤلات ومداخلات الحضور، حيث اجاب عنها الباحثون بإسهاب وسعة
صدر.
وبعد
استراحة قصيرة استؤنفت اعمال اليوم الثالث بمجموعة بحوث محورها (في تجربة سعدي
المالح)، استهلها الناقد مثنى كاظم صادق ببحث بعنوان(الصور المشهدية في مجموعة
"مدن وحقائب") كونها"مجموعة
قصصية للمبدع سعدي المالح المنتقل من برج
الغربة، إلى موطن الاغتراب، تحوي ثمان قصص قصيرة أو قل ثمان قضايا، من قضايا
الحياة والناس صيغت بلغة سلسة لا إسفاف فيها ولا تقعر. بل يوظف القاص سعدي المالح
الصورة المشهدية التي ترد كثيرا في نصوصه
السردية ؛ ليجسد فيها حقائق الحياة ومفارقاتها، إن القاص يصنع صوره المشهدية من
معطيات متعددة، يقف العالم المحسوس في مقدمتها، فأغلب الصور مستمدة من الحواس إلى
جانب ما لا يمكن إغفاله من الصورة النفسية والعقلية"، واشار في الختام الى انه:"
إذا كـــــــــــــــــــان (دستويفسكي)
قد نصح من يريد أن يكتب قصة جيدة بقوله : (شاهد وشاهد... وشاهد) فإنني
أعتقد بأن المبدع ( سعدي المالح ) كان في
مجموعته هذه مشــــاهدا، ومتـــابعاً ومــــــراقباً جيـــداً".
اعقبه
الباحث محمد صابر عبيد ببحث في ذات الاطار بعنوان (الصنعة الروائية وايقاع الموروث
في رواية "في انتظار فرج الله القهار") متناولا العنوان بالتحليل كونه
يتناول ثيمة ذات طابع ديني وأسطوري وتاريخي مشترك ومتداخل، تتمركز هذه الثيمة في
فعالية الانتظار الإنقاذي الذي عاشت عليه شعوب كثيرة منذ فجر التاريخ، وظلّ فاعلاً
في الثقافة الدينية والأسطورية حتى وقتنا الراهن بوصفه فعالية انتظارية مخلّصة،
وربما ستبقى طالما بقي إنسان حيّ في الوجود لأنها انتظارية متأصلة في الضمير
والوجدان والذاكرة والهم الإنساني، على نحو يستحيل تجاوزه أو التلاعب ببطانته ذات
الطبيعة المقدّسة . و اضاف:" يمكن
النظر إلى هذا الميثاق السيرذاتي على أنّ الشخصية الرئيسة في الرواية، أو الراوي
نفسه، على صلة ما بالكاتب سعدي المالح، غير أن الراوي أو الشخصية الرئيسة لا تعبّر
بوثائقية صرف عن ذلك، فعنصر التخييل الروائي يؤدي دوراً واضحاً وجلياً في صوغ
التجربة الروائية وتعميق عناصرها ومستوياتها، وثمة تداخل كتابي عالي المستوى بين
الواقعي والتخييلي على النحو الذي يضفي قيمة كبيرة على العمل الروائي، ويمنحها
بعداً تاريخياً فنياً يكتسب جمالياته بقدرته على تمثيل التاريخ تمثيلاً سردياً .
من مظاهر الصنعة في الرواية حرية اللعب
بالأزمنة، إذ جاءت أزمنة الرواية على طبقات فيها مزاوجة بين أزمنة قديمة وأزمنة
حديثة، على نحو اشتغلت فيه المرجعية الزمنية بأعلى مستوياتها، لكنها تحتشد كلّها
في سياق خدمة الزمن الراهن، زمن الحكاية الأصل في الرواية حيث تتجلّى قوّة حضور
الراوي العائد إلى زمنية المؤلّف".
تلاه
الباحث شاكر الانباري الذي تناول البحث عن الخلاص غير الموجود محورا لبحثه في
رواية (في انتظار فرج الله القهار) مشيرا الى ان: (اعتماد فكرة المخلص، المسيحية،
في بداية الرواية، وظفها الكاتب فنيا حين استرجاعه للأحداث في الحرب العراقية
الايرانية، وبعدها، ربطها بفكرة المهدي المنتظر في مذهب التشيع، واذا الجميع في
حالة انتظار المخلص مهما تنوعت الأديان والمذاهب. وفكرة المخلص وجدت لدى اغلب
الشعوب المضطهدة منذ الوثنية وحتى اليوم. لكن السؤال هو الى اين ينتهي المطاف ببطل
الرواية بعد ان وجد نفسه وحيدا في المقهى او الحانة؟ هو المحمل بتاريخ من الهزائم
والمذابح والخيبات؟ يجيب الكاتب في الفصل الثاني عشر من الرواية بأنه ليس ثمة من
نهاية، فالتجربة ما زالت متفاعلة، ومتوهجة في روح البطل. قد ينتحر وقد يموت وقد
يعود الى مسقط رأسه ليلملم شتات تاريخه وروحه، ويعاود الحياة من جديد. لكن هل
يستطيع ان يعيش وكأن هذه الفترة الزمنية في المهجر لم تمر على وعيه وروحه؟ اعتقد
انه لن يعود هو ذاته الشخص الذي هاجر من قريته ذات يوم هربا من الظلم والاضطهاد.
وهذه
عقدة المنفيين العراقيين، والمنفيين عموما، في كل بقاع العالم، اذ لن يعودوا
يتواءمون مع البيئة القديمة التي خرجوا منها، كما لا يتواءمون مع بيئة الاغتراب،
وهنا تتجسد مأساة المنفى بكل عمق ووضوح).
فيما
تطرق الباحث حسب الله يحيى لـ(فاعلية الغربة في مجموعة"مدن وحقائب" )
وعن كاتبها سعدي المالح ..يقول انه:( يجد نفسه في اغتراب العمل وادامة الحياة ..
مع عالم مختلف عبر عنه هيجل بدراية هذا التشكيل الذي لايتفاعل ، ولا يتفق مع إرادة
الآخر . ووسع ماركس دائرة العمل هذه ،بحيث وجد الأنسان نفسه في حالة إغتراب بين
عالم مستَغل وعالم ذاتي مستِغل .
وجوهر
اداء القاص سعدي المالح في مجموعته القصصية (مدن وحقائب) يقوم على هذا الاغتراب
الذي يجد فيه المرء في عالم ليس له ،ومحيط خارج دائرة إهتمامه .
من هنا
كان المالح .. ذاتاً غريبة .. وكل غرابة ، مثار أسئلة ،وكل أسئلة لابد ان تقع في
محور الفلسفة) .
مسترسلا:"في
ثمان من القصص العذبة ، كانت (مدن وحقائب) تمكن فيها سعدي المالح أن يبوح بالعوالم
التي دار في فلكها متنقلاً بين : موسكو 81 و 83 ومونتريال 90 و واوتاوا 92
وفرانكفورت 93 وابو ظبي 1992 تاركاً بصماته في كل مدينة حمل حقائبه اليها او حملته
المدن .. حقيبة تعاني من الغربة وأوجاعها ومن الانتقال الذي يصرخ لهفة وتوجعاً
وانتظاراً ..
مدن ..
لم تستقر فيها حقيبته ولا نفسه ولا الكوامن في قلبه وعقله .. مما جعله أسير حبه
العميق لقومه وناسه وجذر وطنه .. حتى أصبح عالم سعدي المالح وهماً وفاعلية غريبة
لا تحمل الا بصماتٍ موجعة في مسيرة حياته ، وبات أثرها يشكل كل هذا الخزين المعتق
بالألم والعطاء الابداعي الثر".
وآخر
البحوث كان للقاص العراقي محمد سعدون السباهي بعنوان (اللعب الشيق)
وهي قراءة انطباعية في رواية فرج الله القهار،إذ يقول:" ان الرواية بمجملها
رحلة بحث مضنية عن وطن كان في يوم من الايام صانعا ماهرا للمتع الروحية والفكرية
على نحو فذ. قبل ان تضيعه مجموعة افعال حمقاء سافلة محليا واقليميا ودوليا ايضا،
كانت قد سلمت مصائره لايد غير امينة بعضها دفن خيرة ابنائه في سواتر الحروب
المجنونة ودمر ثرواته وشتت من شتت، وبعضها عادت به القهقرى الى عصور الظلام
والانحطاط".
مضيفا
:"يتوجب علينا ان نحذر من مغبة السقوط الساذج في فخ الظن حين نفهم الرواية
على انها رواية (ايروسية) فهي بطبيعة الامر خلاف ذلك على الرغم من ان متنها ضم
اكثر من مشهد شيده المؤلف بخبرة العارف على ذلك النحو الذي لاينسى!،
تدخل
الموسيقى في سداة ولحمة الرواية بدراية الذواق للموسيقى العالمية الكلاسيكية،
وليست مقحمة لبيان ثقافة موسيقية ارادها الكاتب مدخلا للتفاخر والمباهاة، من دون
سبب وجيه، مثلما هو الحال عند معظم كتابنا المتفيقهين، لنلاحظ مثلا كيف يصبح
(اللعب الخطر) ممتعا وشيقا حين يتم على انغام"تشايكوفسكي" في بحيرة
بجعاته الخالدة".
وبعد
استراحة الغداء عاود الباحثون نقاشاتهم متناولين محورا جديدا هو( التجارب الشعرية)،
في جلسة جديدة ادارها القاص والروائي حسب الله يحيى، متطرقين الى عدة بحوث كان
اولها للباحث بشير حاجم حيث كان بحثه بعنوان (رؤيا الجوهر .. رؤية العالم..الفاعليات
المهيمنة في دواوين السريان) حيث قال: حاولت من خلال بحث كهذا، في الفاعليات، أنْ
أفنِّد الاعتقاد البعضي بـأنَّ تناول الجوهر الشعري رؤياويا غير متناسب مع طبيعة التحليل
البنيوي فاعليا، قدر الامكان. كنت بتلك المحاولة، التفنيدية، أروم الوصول،
إجرائيا، إلى أن اكتناه الرؤيا الجوهرية لقصيدة ما، إستحضارا لرؤيا كهذه، ليس فيه
أي خروج على الطبيعة الفاعلية للتحليل. لقد أردت عند وصولي لذلك النفي، حتما،
برهنةَ أنْ لا صنويّة لمصطلحي «رؤيا الجوهر» و«رؤية العالم».
وقد
برهنت، أنهما، ذاتيا وغيريا على السواء، ليسا متطابقين. أي ميزت بين هذين
المصطلحين، تمييزا يؤكد أن الأول (كفاعلية رؤياوية للجوهر) شيءٌ والثاني (كتكوينية
رؤيوية للعالم) شيء آخر. ذاك التمييز، البيني، كان تطبيقيا، لا تنظيريا، واضاف:"أن
كل فاعلية من الفاعليات الخمس، اللسانية، الدلالية، الإيقاعية، الشعرية،
الإسلوبية، تهيمن على دواوين معاصرة (عربية) من شعراء سريان (عراقيين). غير أن
هيمنة كهذه، وإن كانت (انتظامية/ نسقية)، ليس معناها أن كل ديوان من دواوينهم التي
تناولتها ببحثي هنا، يقتصر على فاعلية واحدة، لا، بل تعني (هيمنتها عليه) فقط. إذ
أن كل واحد من هذه الدواوين، من حيث هذا المعنى الأخير، يتوفر على فاعليتين اثنتين
في الأقل. أي أنه، من ثم، حتى بهذا التوفر، الأضعف فاعلية، ذو بنية علائقية لا
جزئية.
وحمل
البحث التالي عنوانا مميزا (بين الاسطورة والمرأة .. هناك خيط وهمي ... قراءة في
قصائد سريانية ) ويؤكد عبد السادة البصري في بحثه، الذي قرأه نيابة عنه (امير بولص،على
اهمية عنوانه بالقول:" للعنوان أهمية قصوى في كل شئ، اذ لا يمكننا ان نذهب
الى أية جهة كانت ما لم نعرف عنوانها وهذا ينطبق على كتاباتنا طبعا حيث لا يمكن فك
مغاليق أي موضوع دون الولوج من بابه، واقصد العنوان، لانه الذات الرئيسة للموضوع و
كما يسميه الاستاذ محمود عبد الوهاب (ثريا النص) أي القنديل المضئ الذي شع على كل
كلمة في المتن لندرك اننا ازاء فضاء اخر مفتوح على اكثر من جهة، للعناوين دلالات
كثيرة قد تحيلك مثلا الى وجهة اخرى، وتعطيك الحق في اكثر من قراءة للنص وفق ما
ترتأيه في وجهات العنوان نفسه، وقديما قيل(الكتاب معروف من عنوانه) ".
وتناول
بالبحث مجموعتين شعريتين للشاعرين شاكر سيفو (نصوص عيني الثالثة) وزهير بردى (الجسد
امامي واحفادي فانوس) وخلص الى القول:" نجد ان هناك خيطا وهميا امتد بين
الاسطورة والمرأة في قصائد المجموعتين ولو تسنى لنا ان نقرأ كل ما اصدراه سابقا
لتأكد انهما ينتميان لحياة واحدة في مكون واحد حيث تجسّد العنوان عند كليهما في كل
ما كتباه ليظل ثريا دائمة السطوع في الشعر السرياني .وبهذا نصل الى نتيجة حتمية ان
العنوان هو المتن بكل تفاصيله".
وتواصلا
مع الخط الابداعي للمرأة كمبدعة وملهمة تناول الباحث د. جاسم حسين الخالدي بالنقد والتحليل تجربة
الشاعرة نهى لازار ببحث بعنوان (غلبة بسيطة لصالح حواء)، إذ يرى ان الشاعرة:"
تعد واحدة من شعراء حقبة التسعينيات في العراق، وهي المولودة سنة 1973م في قرية (كرمليس)، وقد نجحت في ان تصنع لها كوناً شعرياً عبر مجموعتين شعريتين باللغة العربية
وقصائد كثيرة باللغة السريانية قاربت على مئتي قصيدة).
ثم تناول
بالنقد قصيدتها (نصف جثة) التي تتكون من ثماني مقاطع صغيرة ويمكن توزيعها على قسمين
تمثل المقاطع الاربعة الاولى القسم الاول فيما تمثل المقاطع الاخرى القسم الآخر . وكما
يمثل كل مقطع منها صورة شعرية مستقلة وبمجموع هذه الصور تتكون الصورة الكلية التي أرادت
الشاعرة رسمها لتعبر من خلالها عن الثيمة الأساس
لقصيدتها ( نصف جثة) التي تتكون من ثمانية مقاطع صغيرة ويمكن توزيعها على قسمين تمثل
المقاطع الاربعة الاولى القسم الاول فيما تمثل المقاطع الاخرى القسم الآخر . وكما يمثل
كل مقطع منها صورة شعرية مستقلة وبمجموع هذه الصور تتكون الصورة الكلية التي أرادت
الشاعرة رسمها لتعبر من خلالها عن الثيمة الأساس
لقصيدتها ( نصف جثة).
واختتمت
الجلسة ببحث للقاص والناقد علوان السلمان الموسوم (قطار الموت واللحظة المرعبة/دراسة
في شعر ألفريد سمعان)، الذي يفتتحه بالقول:(التجربة الشعرية (فيض تلقائي للعواطف)
كما يقول وردزورث..كونها تعبيرا عن عمق الشعور الذي لا ينفصل عن الفكرة التي يحتضنها
النص الشعري..كونهما متفاعلين جدليا لتشكيل الرؤيا الشعرية التي تسيطر على التجربة
التي تتمثل في تشكيلات الصور والدلالات اللغوية. ثم تناول بالنقد قصيدته (القطار)
بمقاطعها التسعة التي يتناول فيها الحدثي ـ الظرفي.. ويشكل طقسها بحزن متصاعد
باتجاه الآفاق التي تخبىء نجمة الفرح كما يقول ادونيس.. فهو يعبر عن ذاته فيثير ما اكتنزته الذاكرة
عبر لحظاتها الزمنية التي ينبشها الوعي فيحقق وجودها عبر حروف تفرش روحها على
مديات السطور ..
واسترسل يقول:(الشاعر الفريد سمعان ـ الثوري
الحالم ـ الذي ارتبط شعره بالواقع النضالي للانسان ارتباطاعضويا متماسكا..الشعر
عنده ليس بعيدا عن هم ذاتي وانما تطغى عليه قضية الحس الجمعي ..حيث يذوب الخاص
بالعام والذاتي بالموضوعي.
لقد كان
الشاعر مبحرا في عوالم التأمل وهو منقطع في غربته الداخلية متحسسا مأساته والآخر
من خلال تجربته الصادرة عن انفعال شفيف ..والتي وحدت لحظات الزمن في لحظة تعادل
اعماقها تجارب حياتية عرفها الشاعر والانسانية.. فكانت قصيدته صورة للصراع النفسي
والهم الانساني..عبر الصورة الايحائية التي ادركها الشاعر جماليا من خلال اللفظة
المنتجة ..ومن ثم البناء الفني للعبارة وعمق المعاناة وصدقها..المرتسم على افكار
الشاعر الذي حقق (سفرة مرعبة تحتاج الى جهد مؤلم للسيطرة على الخيالات الوافدة..)
كما يقول ستيفن سبندر)..
وبعد استراحة
قصيرة كان الحضور على موعد مع محاضرة مفتوحة للاب الدكتور يوسف توما التي حملت
عنوان (دور المسيحيين في العراق في تطوّر العلوم الإنسانية) متناولا بالبحث دور
ابناء شعبنا في نهضة بلادنا إذ يقول:(ان بلادنا لم تعرف تطوّر العلوم الإنسانيّة
إلا إلى زمن قريب جدًا، بل ما تزال هذه العلوم في مؤخرة ركب الإهتمامات مثقفينا، في
حين كان لها في الغرب الصدارة في اهتمام النخبة المفكرة، فعدّ كلود ليفي شتراوس
(1908 - 2009) وبول ريكور (1913 - 2005) وعمانوئيل ليفيناس (1905 0 1995) وجاك
دريدا (1930 - 2004)، وغيرهم من أشهر مفكري القرن العشرين. اما النخبة المثقفة من
أبناء شعبنا "المسيحي" فلقد كان لها دور كبير في نهضة بلادنا والمنطقة
ككل، وفي توسيع نطاق التعليم ومحو الأمية بلا إقصاء أو إبعاد أو إنكار لأحد مثالا
على ذلك شخصية المطران إقليمس يوسف داود (1829 - 1890)، الذي وضع ترجمة له الأستاذ
بهنام فضيل عفاص (بغداد 1985)، كان يتقن 20 لغة، ويعدّ كتابه "خلاصة في أصول
النحو"، أوّل كتاب يُطبع في العراق (1859). وكانت حصيلة حياته 85 مؤلفًا في
مختلف العلوم والمعارف (منها ترجمته للكتاب المقدس إلى العربية)، وهو يعدّ من
روّاد النهضة في الشرق الأوسط، ان المسيحيين في يومنا هذا وكأفراد يدخلون في مختلف
الأحزاب والجمعيات ويتنافسون في الإبداع في كل المجالات الفكرية والثقافية، لكن ما
يجمعهم هو حبّهم لوطنهم العراق، لأنهم كانوا سريعي الاندماج في قبول العلوم
والتعلم، وإن كان الكثير منهم قد تركوا الأيديولوجيات السياسية والدينية (بل
تقلبوا بينها)، بحسب الزمان والمكان، أو وقفوا على الهامش ينتظرون، لكنهم لم يقفوا
مكتوفي الأيدي، بل فتحوا مجالات عديدة أدخلوها في بلادنا لم تكن موجودة من قبل
(كالطباعة والمسرح والموسيقى، وغيرها كانوا فيها أوائل الرواد).
ومسك ختام اليوم الثالث كان عرضا للفلم العراقي
(من المسؤول) المأخوذ عن قصة لادمون صبري بذات العنوان.