عشتارتيفي كوم- رووداو/
على جهتي شارع السعدون، بجانب الرصافة من بغداد، في الجهة اليسرى من الشارع، المنطقة الممتدة ما بين الباب الشرقي، منطقة الاورفلية، وحتى نصب الجندي المجهول سابقا، او ساحة الفردوس حاليا تقع منطقة البتاويين. اما في الجهة اليمنى من الشارع تمتد ازقة تربط ما بين شارعي السعدون و (ابو نؤاس) الشهير الذي يقع على ضفة نهر دجلة.
كانت هنا تقوم ارقى المحلات السكنية بعمارتها البغدادية الاصيلة، حيث بناها وسكنها كبار العوائل اليهودية وبعض كبار التجار من العوائل المسيحية ، قبل التهجير القسري ليهود العراق منذ عام 1950، عندما اضطرت حكومة نوري السعيد وبضغوط بريطانية، إلى إصدار قانون إسقاط الجنسية عن يهود العراق، والسماح لهم بالهجرة إلى إسرائيل، وامتدت سنوات هجرتهم او تهجيرهم حتى نهاية السيعينيات وهناك عوائل يهودية صمدت حتى التسعينيات. ومن ثم بدأت هجرة غالبية المسيحيين لاسباب امنية التي منذ نهاية التسعينيات وحتى ما بعد 2003، بعد ان تعرضوا للتهديدات والاغتيالات، وسرقة عقاراتهم وتسجيلها زورا باسماء السراق من المتنفذين، قبل ان تتحول الى مناطق مهجورة مفتوحة للمشردين او العوائل الفقيرة، وصارت بؤرة لتوزيع المخدرات ومأوى للخارجين عن القانون.
هذه المنطقة كانت خارج حدود بغداد، ومسجلة بدوائر الطابو باسم بستان (مامو)، وعرفت شعبيا باسم ر( بستان الخس) .وكان معظم سكان هذا الحي العتيد من اليهود العراقيين، ومن العوائل اليهودية التي كانت تقطن هذا الحي: بيت يوسف أبو سامي (شاموئيل) ، ونسيم حزقيل، وبيت خضوري مئير لاوي، وصالح ساسون، وبيت شاشا وسليم منشي، وكرجي داود، وغيرهم. وكانوا يمارسون طقوسهم الدينية بحرية تامة في معابدهم: كنيس شماش ومسعودة شمطوب اضافة الى مئير طويق القريب من سوق البتاوين. اضافة الى وجود كنيسة الارمن وكنيسة لليعاقبة في شارع تونس القريب من بناية (القصر الابيض).
تميزت بيوت البتاويين، معماريا، كونها تنتمي الى الطراز البغدادي، بيت شرقي متطور، مكونة من طابقين يتوسطه فناء مفتوح ( حوش) ترى السماء منه وتحيط به الغرف العديدة وسلم يقودك منه إلى الطابق العلوي، الذي يشبه تصميمه الطابق الأرضي والحوش المرصوص بالطابوق الفرشي او بالكاشي الموزاييك، وسلم آخر يقودك الى السطح حيث كانت غالبية العوائل البغدادية، وباختلاف مستوياتها الاقتصادية، تنام على السطح صيفا لتنعم بنسيم البساتين التي كانت منتشرة ببغداد، وبالهواء البارد القادم من جهة نهر دجلة..كما يوجد سلم آخر في الطابق الارضي يؤدي إلى ( السرداب ) القبو الذي كان يستخدمونه مخدعا للنوم أيام الصيف القائضة وكانوا يضعون طبقة من العاقول أو الشوك الأخضر المثبت على جريد سعف النخل على الشبابيك التي تكاد تلامس سقف السرداب ويرشها أهل الدار بالماء كلما يبست أو جفت لكي تعطي السرداب هواء باردا .
كما كانت تستخدم العواميد (الدنك) التي ترفع البيت وهي مزخرفة في غاية الجمال والروعة لتضفي على البناء رونقا وبهاء ، أما أرضيات الغرف فكان يستخدم لها الكاشي الموزاييك بنقشات وزخرفات متنوعة تعطيها الألوان الجذابة إشراقا وجمالا منقطع النظير.
عُرف شارع السعدون باعتباره واحدا من اجمل شوارع بغداد الحديثة الذي يربط من نهاية شارع الرشيد في الباب الشرقي حتى الكرادة. وتم تطويره في بداية الثلاثينيات بينما بدأت الابنية تعلو على جانبيه في الاربعينيات من القرن الماضي. وفي بدايته كان من أرقى الشوارع وكانت منطقة البتاويين ومنطقة القصر الأبيض بضمنها بارك السعدون، تعد من أرقى المناطق السكنية في بغداد، في العقود التي تلت وبعد تحوله إلى شارع تجاري رئيسي بدأت العوائل ذات الدخل العالي بالانتقال إلى مناطق أكثر هدوءا.
انشأت في شارع السعدون ارقى صالات السينما الحديثة، مثل (سندباد) و(النجوم) و(أطلس) و(النصر) و(بابل)، وبنيت فيه احدث فنادق بغداد، مثل (فندق بغداد) و(عشتار شيراتون) و(فلسطين ميريديان). كما اشتهر، سابقا، كونه شارع العيادات الطبية والصيدليات، والمطاعم والمقاهي الحديثة.
ابنية شارع السعدون اليوم تشكو الاهمال تماما، وحسب موفق العاني الذي يملك عمارة قريبة من نادي العلوية الشهير، فان :" غالبية اصحاب العمارات هم خارج العراق ومنذ سنوات طويلة، الاباء رحلوا وابنائهم ربما لم يشاهدوا او يعرفوا اي شيء عن املاكهم التي يهتم بها ويجمع بدلات ايجاراتها المحامون". منبها الى ان:" على امانة العاصمة ان تصدر تعليمات مشددة بضرورة اعادة صيانة هذه الابنية واعادتها الى رونقها السابق، فقد كنا نسمي شارع السعدون (شانزليزية بغداد)".
العاني منشغلا بصيانة بنايته التي ورثها من والده وعاد من لندن من اجل صيانتها. " وربما الاستقرار ببغداد ليس من اجل البناية فحسب وانما لانني احب بغداد فهي مدينة جميلة"، حسب ما يؤكد.
ندلف من احد ازقة شارع السعدون باتجاه شارع (ابو نؤاس)، على يسارنا كانت تقع (مقهى المعقدين) وهي مقهى كان يجلس فيه عدد من الشعراء والكتاب من جيل الستينيات والذين احدثوا ثورة في الادب العراقي، ولكثرة نقاشاتهم وقتذاك اطلق على المقهى تسمية (المعقدين).
هذه الازقة كانت حافلة بالمقاهي والمطابع ومقرات الصحف والشقق السكنية التي يقيم فيها عادة الكتاب والصحفيين والفنانين، تحولت اليوم الى خرائب..الى اطلال غير صالحة للسكن.
ابنية مشيدة وفق اساليب معمارية كلاسيكية وبغدادية اصيلة اهدمت شناشيلها وتحولت الى مناضر تشبه مشاهد من افلام الحري العالمية الثانية، في حين كان يجب اعادة اعمارها وتحويلها الى مرافق سياحية راقية، وهذا الكلام ينطبق على ابنية البتاويين، لا سيما ان هناك تجارب في بيروت ودمشق لتحويل البيوت التراثية الى مطاعم ومقاهي تجذب السياح لا سيما وانه تم اختيار بغداد عاصمة للسياحة العربية لهذا العام 2025.
وبهذه المناسبة، بغداد عاصمة السياحة العربية، أوضح المتحدث باسم امانة بغداد،محمد الربيعي، لشبكة رووداو الاعلامية، ان:" امانة بغداد جزء من لجنة بغداد عاصمة السياحة العربية، الى جانب مؤسسة السياحة التابعة لوزارة الثقافة وجهات اخرى، ونحن مسؤولين عن انجاز المشاريع الموكلة لنا، بل اننا قمنا ونقوم بواجباتنا لاظهار عاصمتنا باحسن وأجمل وجه."
واضاف" بغداد اسما لعاصمة فيها كم هائل من المعالم التاريخية والثقافية والجداريات والنصب الفنية والمسارح وقاعات العرض التشكيلي والمكتبات والمتاحف، اهمها المتحف العراقي والمتحف البغدادي، وتنافس بهذه الجوانب اكبر المدن في العالم ولهذا تم اختيارها عاصمة للسياحة العربية.
وكشف المتحدث باسم امانة بغداد عن ان:" مدينتنا اليوم تحولت الى ورشة كبيرة لاعادة اعمار المواقع التاريخية والتراثية التي عانت من الخراب لسنوات طويلة، حيث سيتم اعادة اعمار وصيانة جزء من شارع الرشيد، في المنطقة المحصورة ما بين ساحة الميدان وحى شارع المتنبي، تماما مثلما تم اعادة اعمار شارع المتنبي وشارع القشلة او زقاق الحكومة القريب من شارع المتنبي". مشيرا الى انه :" هذه البداية لاعادة اعمار شارع الرشيد، وهو اقدم شوارع العراق".
|